12 سبتمبر 2025
تسجيلخدعونا فقالوا إن الهروب جبن، وأن الشجاعة هي المواجهة وحسب، وأن الشجعان لا يهربون أبدا ومهما كانت النتائج. خدعوك فقالوا إن الجبان هو من يطلق ساقيه للريح عندما يلوح له الخطر في الأفق مهما كان هذا الخطر! خدعوك فقالوا واجه ما تخشاه حتى وإن كانت النتيجة هلاكا حتميا لك! لكننا اكتشفنا، وما زلنا نكتشف، أننا في كثير من المرات ضيعنا على أنفسنا فرصا رائعة لمواصلة الحياة بطرق أفضل وكلفة أقل بسبب هذه الخدعة. وربما أشهر مثال على تلك الخدعة القاتلة ما قاله رفاق رحلة المتنبي الأخيرة عندما أراد الهروب مما يطاردونه لقتله، عندما اكتشف أنهم كثيرون وأنه واحد، وأنهم قد أعدوا العدة لقتله مع سبق الإصرار والترصد وأنه مجرد مسافر، وأن مواجهتهم موت متحقق وهروبه نجاة ممكنة. ولم يكد يشرع بخطة الهرب حتى ذكره الرفاق ببيته الشهير؛ «الخيل والليل والبيداء تعرفني / والسيف والرمح والقرطاس والقلم»، وعندها لم يجد المتنبي بداً من التراجع عن خطته لإثبات وصفه الشعري لنفسه، فكانت المواجهة الغبية التي أهلكته في النهاية! الهروب رد فعل طبيعي لدى البشر عندما يواجهون ضغوطا نفسية أو عاطفية أو مادية لا يستطيعون الوفاء بها، ولا يملكون حيالها أفكارا تنقذهم بالمواجهة، فهناك من يشعر بالتعب والإرهاق والكآبة بسبب المشاكل الشخصية أو العلاقات الاجتماعية أو الظروف المادية الصعبة، وللتخفيف من حجم هذا الضغط أو تجنب الانسحاق تحت وطأته يلجأ بعضنا الى الهروب من ذلك الواقع. ورغم أن هناك من يفضل الاستمرار في التعامل مع المواقف الصعبة ومواجهتها بشجاعة، إلا أن هروب غيره لا يعني أنه جبان، بل ربما تكمن الشجاعة الحقيقية في ذلك الهروب بظروف معينة. وليس في الأمر أي تناقض! وبعيدا عن الخدعة الكبيرة التي عشنا فيها بكل تحولاتها، يمكن أن نعتبر الهروب شجاعة حقيقية عندما يتعلق الأمر بالتخلص من الأمور السلبية في الحياة مثل العلاقات السامة نجد أنفسنا أحيانا وقد أصبحنا أسرى لها لا نقوى على تجاوزها أو مواجهتها ولا حتى الخلاص منها! وهنا يصبح النجاح في الهروب منها شجاعة قصوى فكلما ابتعدنا عنها أصبحنا أكثر ثقة بأنفسنا وساهم ذلك في معالجة الأمور بعد النظر إليها من بعيد نظرة موضوعية، وإعادة ترتيب الأفكار وتحقيق التوازن النفسي المطلوب! الهروب من بعض الأشخاص الذين لا نقوى على مواجهتهم إما لقوتهم الفائقة أو لشدتهم على من يواجهون، أو ليقيننا بانتصارهم غير العادل في نهاية المواجهة، وربما لأن مكانتهم في النفس لا تسمح لنا بالتعامل معهم تعاملا عنيفا، يمكن أن يكون شجاعة أيضا! وهذا يعني أن كل هروب من كثرة تغلب الشجاعة، ومن تهور يغلب الحكمة، ومن عنف يغلب الاعتدال، ومن ظلم يغلب العدالة إنما هو شجاعة! والفكرة ذاتها تنطبق على الهروب من الأماكن وبيئات العمل والهوايات وبعض أنواع الشغف أيضا. هل أقول أنه ينطبق على فكرة الهروب من الأوطان أحيانا؟ يحدث هذا فعلا للأسف، ولعله من أقسى أنواع الهروب الشجاعة، عندما لا يجد المواطن مفرا من الهروب من وطنه قبل فوات الأوان، وحتى لا يتحول هذا الوطن الى مجرد سجن كبير لا يحمل المرء تجاهه سوى ما يحمله السجين لزنزانته! فلا يمكن أن يكون الإخلاص للزنزانة بالبقاء فيها مع إمكانية الهروب منها شجاعة! فاهربوا إذن، عندما يكون الهروب هو وسيلتكم للنجاة ومواصلة الحياة، بحرية وكرامة بعيدا عن اشتراطات الزنزانة سواء أكانت تلك الزنزانة مصنوعة من حديد لحبس الجسد أم من وهم لحبس الروح.. اهربوا تصحوا!