13 سبتمبر 2025
تسجيللو قمنا بجرد أمين وغير منحاز لما تحقق للشعوب العربية من منجزات وما فقدته من مكاسب خلال السنتين الأخيرتين لقلنا من دون تردد إن بعض هذه الشعوب أصبحت في عداد الجماهير غير المحكومة وغير القابلة للنظام والقانون، أي تحولت من عهد دولة الاستبداد والقهر إلى عهد اللادولة، ومن مرحلة تجاوز القانون إلى مرحلة اللاقانون، ومن حالة التساهل مع الفساد إلى حالة التساهل مع الفوضى. وهنا تتساوى المصائب رغم اختلافها ولا يشعر المواطن بالأمان رغم تمتعه بحق التعبير والتظاهر. ولو أوجزنا الكلام لتوصيف هذه الظاهرة لقلنا إن بعض شعوبنا العربية عوضت محنة بمحنة وبدلت معضلة بمعضلة ولخلصنا إلى استنتاج بديهي لا مناص منه وهو أننا اليوم أمام هدف استعجالي علينا تحقيقه بأقصى السرعة وأقصى الحكمة، هو إعادة بناء الدولة، لا أي صنف من الدولة، حتى نتجنب تكرار الأخطاء التاريخية العربية، بل بناء الدولة القوية العادلة بابتكار أساليب جديدة تؤدي بالعرب إلى تأسيس أداة الحضارة والعيش المشترك والمواطنة الحقيقية وتقاسم الخيرات واجتناب الزلات وتنظيم المجتمع، ألا وهي أداة الدولة القوية العادلة المتفق ضمنيا على وظيفتها ورسالتها في المجتمع للحد من الرغبات الأنانية بواسطة القانون وتحقيق المساواة أمام القضاء. من أي منطلق أيديولوجي ننطلق لتحليل هذه المعادلة المعقدة، فلا بد من الإقرار بأن مصائب العرب الكبرى في تاريخهم الحديث كان مردها الأصلي غياب الدولة القوية العادلة، فأنظر إلى هزيمة العرب الأولى في حرب 1948 بين عصابات صهيونية وجيوش عربية حين أنجبت منظمة الأمم المتحدة كيانا لليهود بقرار نوفمبر 1947 اسمه دولة إسرائيل فرفض العرب قرار التقسيم الجائر بالفعل ولكنهم ارتكبوا ما هو أكثر منه جورا فأتاحوا للصهاينة تهجير الفلسطينيين وساعدوا أعداءهم على إفراغ مدن وقرى فلسطين وتشريد أهاليها (4 ملايين) تحت الخيام إلى يوم الناس هذا فقد كانت الدول العربية آنذاك هزيلة لأسباب عديدة وظالمة أيضا بكبت أي صوت مخالف أو أي رأي ناقد، فوقعت النكبة الأولى، وإلى يوم الناس هذا فإن المؤسسات الرسمية العربية غير قادرة على تنسيق مواقفها إزاء القضية الفلسطينية التي نسميها القضية الأم، بل إن معاملة بعض "الأشقاء" للاجئين (أو المقيمين) الفلسطينيين لديها لا تختلف عن معاملة إسرائيل، إن لم تكن أسوأ. وحل زمن النكبة الثانية عام 1967 حين قرر الزعيم جمال عبد الناصر وحده إغلاق خليج العقبة في 22 مايو وأقحم الأردن وسوريا في مواجهة لم يكن الملك الحسين ولا حافظ الأسد مستعدين لها وهنا فإن غياب الدولة الحديثة في مصر هو السبب الأكبر للكارثة، لأنه لو كان لعبد الناصر مستشارون ورأي عام حي ومجتمع مدني فاعل لما جرى نهر الأحداث بمثل ذلك الارتجال العاطفي المدمر، فقد كانت النخب المصرية (والعربية عموما) مكممة الأفواه إذا لم تكن في السجون والمنافي أو في غيابات الموت إعداما كما وقع للشهيد سيد قطب. وكانت أصوات مزوري التاريخ ومدلسي الحقائق والمنافقين (من صنف أحمد سعيد في إذاعة صوت العرب) أقوى وأعلى من أصوات الناصحين والعارفين بمخاطر الأزمة. ومنذ الخمسينيات، أي مرحلة استقلال الدول العربية الحديثة، ونحن العرب نتخبط في ضلال سياسي مبين بسبب بناء الدولة على الشخصنة (عبادة الشخص) أو على التحزب (عبادة الحزب) أو على الأيديولوجيا (عبادة التعصب العقائدي مهما كان)، فحدث في غياب الوعي العربي الشعبي انحراف الدولة عن خدمة الناس كما هو شأن الدول العريقة المتقدمة إلى خدمة شخص أو حزب أو عصبية، فاستعصى العالم العربي عن النهضة الإنسانية العارمة حتى كتب الزميل المفكر الأمريكي من أصل هندي فريد زكريا صاحب افتتاحيات نيويورك تايمز كتابه حول التحولات الحضارية الكبرى سنة 2001 فأفرد العالم العربي بفصل سماه (الاستثناء العربي) وكنت في لقائي به بعد صدور الكتاب نشارك سويا في أحد المؤتمرات الدولية بالدوحة تحادثت معه طويلا حول رأيه في هذا الاستثناء العربي والبدائل التي يقترحها لكسر الاستثناء، فقال لي فريد إن الثقافة العربية تحمل جينات إرادة وتحد وجينات خنوع واستكانة وأن تفعيل الجينات الأولى الإيجابية ضد الجينات الثانية السلبية رهين النظام السياسي الذي سيختاره العرب في الأعوام القادمة (نحن في سنة 2002) ودرجة مشاركة الجميع في قراراته وتوجيهه، وأضاف فريد: "أنا أتوقع حدوث زلازل عنيفة في المجتمعات العربية ربما بعد عشرة أعوام"، (الغريب أن التحولات وقعت بالفعل بعد سنوات عشر). وواصل فريد كلامه قائلا: "الجينات الخيرة لدى العرب لا تنفجر وتتفاعل إلا متى قرأوا تراثهم بعيون التجديد والتحديث وابتكروا مستقبلهم على أساس أصالتهم الثورية، أي القيم المؤسسة للفكر العربي الإسلامي بعد التوفيق في ملاءمتها مع مستحقات العصر وكونية التحولات وهي ذات القيم الأصيلة التي صنعت نهضة العرب ورفعتهم وكبرياءهم خلال قرون طويلة من الخلافة الإسلامية (فريد يطلق عليها اسم الإمبراطورية الإسلامية) وكل هذه التحولات العميقة لن تتم إلا بتأسيس دولة مدنية حديثة تجمع بين التمكن من القوة واستعمالها في نصرة الحق وفي فرض الأمن وإلزام الناس بالقانون وبين توخي العدالة والقسطاس في سياساتها الاجتماعية وخياراتها الاقتصادية". لو نتأمل في الأولويات التي على العرب (بربيعهم وخريفهم وشتائهم) مواجهتها وإنجازها لوجدنا أن معضلاتهم الأساسية أسبابها الأولى هي فقدان البوصلة الوطنية والقومية، فقد ضاعت جماهير الناس الطيبين بين حركات جهادية ومنظمات حزبية ووعود وهمية، بينما تدرك هذه الجماهير الضائعة أن أمنها مفقود وأسعار الحياة اليومية اشتعلت وبأن مستقبل عيالها على كف عفريت. وهذا يفرض على النخب الحاكمة والمعارضة أن تشرع في إعادة الاعتبار للدولة القوية العادلة التي وحدها ستكون بوصلة المجتمع ومنارته الهادية في لجج هذا اليم العالمي المتلاطم المظلم.