01 نوفمبر 2025

تسجيل

أسرار عرب الخمسينيات تكشفها مذكرات الرئيس أيزنهاور (1)

22 فبراير 2018

إن الذي لا يقرأ التاريخ لا يفهم الحاضر وأبلغ كتب التاريخ هي تلك المذكرات التي يسجلها قادة حكموا العالم وتركوا بصماتهم على مصير البشرية خيرا أو شرا. ولعل بعض نكباتنا نحن العرب ـ أمة ونخبة ـ أننا لا نقرأ  وإذا قرأنا فإننا لا نعتبر. وأنا واثق من ان الجيل العربي في العشرينيات والثلاثينيات لو قرأ كتاب لورنس العرب (أعمدة الحكمة السبعة) لفهم نوايا بريطانيا في اقتطاع فلسطين للشتات اليهودي ولو قرأ الجيل العربي في مطلع القرن الماضي كتاب تيودور هرتزل (الدولة اليهودية) لأدرك خطر مخططات الصهيونية. من الكتب التي قرأتها حديثا كتاب مذكرات (يفغيني بريماكوف) حول حروب الشرق الأوسط الأخيرة الذي صدر في القاهرة سنة 2016 بعنوان (الكواليس السرية للشرق الأوسط من القرن العشرين إلى بداية القرن الحادي و العشرين) و الأهمية القصوى للكتاب الوثيقة هي أن كاتب المذكرات كان وزيرا للخارجية الروسية و بعدها رئيسا للحكومة وهو المستعرب و خبير الحضارة العربية و الرجل الذي كان في قمة هرم السلطة لقوة عملاقة و المتمكن من كل تفاصيل المواقف العربية و الأمريكية في أزمات الشرق الأوسط و بخاصة حروب الخليج. هذا الكتاب قرأته شخصيا كأنه الجزء الثاني المكمل لمذكرات الرئيس الأمريكي (دوايت إيزنهاور) لما وجدته من ترابط عجيب بين حلقات السلسلة الكاملة لأزماتنا المزمنة و من استمرار للأخطاء الكبرى التي ارتكبت في حق شعوبنا العربية بالنظر لسوء الخيارات لدى القادة العرب منذ الخمسينيات الى اليوم. الغريب الذي اكتشفته من هذه المذكرات أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ عقود تحويل وجهة السياسات المصرية و السعودية نحو خدمة ركاب واشنطن لاعتقادها أن هاتين الدولتين لهما وزن استراتيجي ثقيل و تأثير كبير على اتجاهات الدبلوماسيات العربية فاعترف بريماكوف كما اعترف إيزنهاور قبله بعقود أن من يسخر مصر و السعودية لخدمته هو الذي يكسب كل معاركه و صفقاته في الشرق الأوسط وبالطبع فإن واشنطن كقاطرة للغرب الليبرالي لا تفكر في غير مصالحها الاقتصادية العاجلة فعلى سبيل المثال عندما أضر القذافي بالنسب المئوية التي تتقاضاها الشركات الغربية من انتاج بترول ليبيا في مطلع الثمانينيات قررت أمريكا أن تضرب ليبيا و بدأت تنسج الحجج و البراهين لتزحزح الروس عن مكانتهم الجديدة في اقتصاد ليبيا الى أن اتخذ (ريغن) ليبيا هدفا عسكريا و دك منزل القذافي سنة 1986و قتلت ابنته بالتبني عن عام واحد من عمرها و حركت أجهزة الإعلام و المخابرات الغربية ضد العقيد ملف (لوكربي) و ملف تفجير مرقص في ألمانيا.  تجول هذه الخواطر في ذهني وانا اقرأ الطبعة الثالثة لمذكرات رئيس الولايات المتحدة الامريكية الاسبق الجنرال دوايت ايزنهاور الذي حكم اكبر قوة  من 1953 الى 1961 وبذلك عايش وشهد اكبر الزلازل السياسية لفترة ما بعد الحرب الثانية مثل الحرب الباردة والعدوان الثلاثي على مصر وخروج الاستعمار الفرنسي من المغرب العربي واعادة شاه ايران الى عرشه بعد اجهاض ثورة مصدق والانزال العسكري في لبنان عام 1958 حين كان كميل شمعون رئيسا وتنفيذ عقيدة (فوستر دالس) لاحتواء المد الشيوعي في امريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا... وبالنسبة لنا كعرب فإن مطالعة هذه المذكرات تكشف جوانب غامضة من السياسة الامريكية إزاءنا بل وتبصرنا بضرورة قراءة ألف حساب لاستراتيجيات القوى العظمى خاصة ونحن نقتحم عالما معولما مرتبط المصالح متشابك الازمات فمذكرات ايزنهاور التي رتبها وجمعها وعلق عليها الصحفي الامريكي (ستيفن امبروز) توضح لنا خارطة الشرق الاوسط كما تراها واشنطن في الخمسينيات وتداعيات الثورة المصرية كما تكشف اسرار المناورات السياسية الكبرى التي اطاحت بكثير من الانظمة والرؤوس وغيرت المعادلات وقلبت التحالفات واعطت لعصرنا الراهن طابعه المتميز بالانشقاقات العربية والاسلامية وهشاشة توجهات الانظمة في الشرق الاوسط وتغلغل التدخلات الاجنبية في قلب الامة العربية. يكشف (امبروز) في كتابه سرا ظل مجهولا حتى عثر عليه الكاتب فيما جمع من مذكرات الرئيس ايزنهاور وهذا السر هو ان (فوستر دالس) وزير الخارجية طلب من المخابرات المركزية الامريكية ان تعد سيناريوهات محتملة لقتل عبدالناصر وفعلا تم اعداد هذه الصيغ الممكنة وعرضه (دالس) على ايزنهاور فرفضها.. ورفض الفكرة قائلا انه يستبعد ان يكون عبدالناصر وراء زعزعة المصالح الامريكية في الشرق الاوسط. كان ذلك في اواخر سنة 1955. وفي تلك السنة اتجه عبدالناصر الى الولايات المتحدة لتسليح مصر بمبلغ سبعة وعشرين مليون دولار فهب (دالس) والكونجرس الموالي لاسرائيل لاجبار ايزنهاور على رفض الصفقة فتوجه عبدالناصر الى تشيكوسلوفاكيا التي عقد معها صفقة فاقت الصفقة الامريكية بخمس مرات وقبلت الحكومة التشيكية ان تقبض مقابل اسلحتها مقايضة بكميات من القطن المصري. من هم القادة العرب الذين أيدوا مخطط واشنطن لإغتيال عبد الناصر؟(2) د.أحمد القديدي استعرضنا في الجزء الأول من المقال بعض أسرار و خفايا السياسة الأمريكية تجاه العرب كما دونها رئيس الولايات المتحدة آنذاك (دوايت إيزنهاور) و نواصل عرض الصدمة الغربية حينما أعلن الزعيم جمال عبد الناصر تأميم القنال وهو ما اعتبرته بريطانيا و فرنسا و اسرائيل تهديدا مباشرا لمصالحها الحيوية و تغييرا جوهريا لتحالفات العرب الدولية ولم ييأس عبدالناصر من امريكا حتى بعد رفض واشنطن بيع الأسلحة لمصر فعرض على ايزنهاور تمويل بناء سد اسوان بالتعاون مع البنك الدولي فتم نفس الضغط ـ الى جانب ضغط (إيدن) الذي كان يعتبر القضاء على مصر قصما حاسما لظهر العرب  ورفض ايزنهاور تمويل السد العالي فتوجه عبدالناصر الى السوفييت. كتب ايزنهاور في مذكراته بتاريخ 8 مارس 1956 ما يلي: (اني مقتنع ان عبدالناصر لن يقوم بأي حركة من اجل السلام وان العرب اصبحوا وقحين ولذلك سوف اعمل جهدي على احداث الشقاق بين عبدالناصر والملك سعود) . وتصاعدت تحديات عبدالناصر مهددا بتأميم القنال فتضاعف خوف امريكا وفرنسا وبريطانيا واستغلت اسرائيل التي كان يتزعمها بن جوريون آنذاك هذا الخوف لاثارة الغرب باسره ضد مصر ولم تنقطع تحديات عبدالناصر فأعلن في اواخر مايو ان مصر تعترف رسميا بالصين الشعبية وترفض الاعتراف بالصين الوطنية و زعيمها (شان غاي تشاك) وتحرك (ايدن) في اتجاه الاحتلال العسكري للقنال ولمصر ان لزم الامر قائلا في مذكرة بتاريخ 27 مايو 56 موجهة الى ايزنهاور: (ان الغرب سيختنق وستنقطع عنه حنفية النفط ولا يمكن ان نترك عبدالناصر يؤمم القنال ويهدد مصالحنا البحرية.. والامر يدعو الى تأديب عبدالناصر..) . وكان ايزنهاور يميل حسب المعطيات التي استقاها من (دالس) ومن المخابرات الامريكية الى عقد ندوة لايجاد حل قائلا في مذكراته وفي رسالة ابلغها (روبرت مورفي) الى (ايدن) بتاريخ 2 سبتمبر 56: (ان لدينا في منطقة الشرق الاوسط وخاصة من بين العرب حلفاء تتزعمهم السعودية اعربوا لنا عن رغبتهم في تحجيم عبدالناصر ولكنهم يرون ان عملا عسكريا في القنال لايأتي بتلك النتيجة..) . وجاء جواب (ايدن) يوم 7 سبتمبر 1956 ليذكر ايزنهاور بان بريطانيا وفرنسا تحالفتا في الحرب الاخيرة مع الولايات المتحدة (ولايمكن ان نترك الغرب ينهار على مراحل) . في منتصف نهار 31 اكتوبر علم ايزنهاور ان الطائرات البريطانية والفرنسية والاسرائيلية معززة في الارض بقوات ثلاثية كبرى هاجمت مصر وان عبدالناصر تمكن من غلق القنال وجمع قواته للمقاومة وكتب الرئيس الامريكي في مذكراته بان ذلك الهجوم كان مفاجأة عظمى له تعادل مفاجأة (بيرل هاربر) في ديسمبر 1941 او الهجوم الالماني على فرنسا في ديسمبر 1941 والبقية معلومة لدى المؤرخين فقد تحرك ايزنهاورالرئيس الأمريكي و(بولجانين) زعيم الاتحاد السوفييتي حينذاك لانهاء العدوان واغتنم الكرملين هذا الحدث ـ ومناخ الانتخابات الرئاسية الامريكية ـ ليقوم بغزو المجر واحتلال عاصمته بودابست لسحق المتحررين. ويهب ايزنهاور ليستخلص العبرة من العدوان الثلاثي فيقول (انا مؤمن بأن مصالح امريكا رهينة استقرار منطقة الشرق الاوسط اكثر منها رهينة الشرق الاقصى) . ويضيف ايزنهاور يوم 5 فبراير 1957 قائلا: (لعل مصلحة امريكا تتلخص في الحفاظ على حاجة العرب المستمرة للمعونة الغربية مع استعدادنا للتدخل العسكري اذا ثبت ان جزءا من هذا العالم العربي أصبح قويا لدرجة تهديد اسرائيل) ثم يقول ايزنهاور تلك الحكمة التي ذهبت مذهب الامثال في الخمسينيات حين خطب امام الكنجرس يوم 3 مارس 1957 قائلا: (بصورة عامة نحن بازاء قادة عرب محتاجين للسلاح يحكمون شعوبا محتاجة للخبز). حين أستعرض لقرائي العرب هذه الحقائق التي سجلها مهندسوها الغربيون فإني أدعو الجيل العربي الراهن من الشباب الى الاعتبار بها و إدراك بعض العبر التي تنفعنا اليوم وأهمها أن استراتيجية الغرب إزاءنا لم تتغير بل تلاءمت مع مستحقات العصر وهي تعتمد اليوم كما بالأمس على استمالة دولتين محوريتين هما مصر و السعودية لتكونا قاطرتين للعرب في خدمة مصالح غير العرب و لا نتعجب حين نرى اليوم هاتين الدولتين تحاصران دولة قطر العصية عن دخول بيت الطاعة فقطر متمسكة بمبادئها القومية و سيادتها الوطنية الى جانب إصرارها على مقاومة الإرهاب و تحمل أمانة دورها الإيجابي في صيانة أمن إقليمها و أمن شقيقاتها دون تخاذل أو  تردد وهو ما جلب لها تعاطف الرأي العام العالمي و ما جعلها تصمد باقتصادها القوي و دبلوماسيتها الذكية و رجالها و نسائها الوطنيين أمام ما خططه لها بعض خصومها فصلب عودها و قويت شوكتها و ازداد أميرها محبة في قلوب أبناء شعبه.