13 سبتمبر 2025

تسجيل

ذكريات طريفة مع المنفيين العرب

22 فبراير 2012

اليوم وقد تغيرت أوضاع بلدان عربية كثيرة كانت أنظمة الحكم فيها تلاحق خصومها و تضطهدهم أجد من واجبي أن أسرد على الشباب بعض ذكريات المنافي التي عانيناها و لكن بما فيها من نوادر أيضا ومن آيات الله سبحانه أن كتب لبعضنا نحن المنفيين العرب أن نشهد و نحن أحياء تطبيق الله لوعده الحق بأن ينصر المستضعفين و يرفع عنهم المظالم و أن يجازي الظالمين بما ارتكبوا سبحانه العدل الحق لا ملجأ إلاه و لا مغيث سواه. الدروس التي تعلمتها من سنوات المنفى الخمس عشرة(1986-2000) كانت لي أفضل و أنفع من سنوات الدراسة بالمدارس و الجامعات، و أبلغ تأثيرا من بعض المسؤوليات التي تحملتها هنا و هناك على مدى السنوات، وهي تأكيد لما قاله الله تعالى :" و عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون " و نفس معاني هذه الآية الكريمة أبدع الشاعر العربي أبو تمام تلخيصها في بيت واحد من الشعر حين قال: قد ينعم الله بالبلوى و إن عظمت و يبتلي الله بعض الناس بالنعم و حين أرى الإخوة السوريين اليوم يغادرون وطنهم الذي كان في الزمن الزاهر يؤوي الملتجئين إليه، أقول لعل في ذلك خيرا مؤقتا حتى تنجلي الغمة عن بلاد الشام فقد طالت. و لي مع المنفيين العرب و المسلمين، زملائي في محنة المنفى نوادر و قصص سجلتها في كتاب (ذكريات من السلطة إلى المنفى) صدر عام 2005 في عز الاستبداد لا بعد رحيل السلطان الجائر. ليس فيه لا غضب و لا حقد ما عدا الحقيقة كما يعيشها المقطوعون عن أوطانهم، التي هي بالضرورة حقيقة ذاتية لا تدعي لا الموضوعية و لا العصمة. و من هذه النوادر أن رفيق المنفى د. محمد مخلوف المفكر السوري التقى أحد أصدقائه القدامى الذي ظل في بلاده و ارتقى إلى منصب رفيع، و بعد السلام و طيب الكلام، قال المسؤول للمنفي عن حسن نية وسلامة طوية: :" بالله يا محمد لا تمت في المنفى الفرنسي و لو قدر الله و وافاك الأجل هنا فاترك وصيتك بأن تدفن في وطنك " و بابتسامته اللطيفة المعهودة أجاب الدكتور:" نريدها أوطانا لنا لا مقابر". و من النوادر الأخرى التي عشتها، كنا نجلس جماعة المنفيين العرب ( على وزن المقاولين العرب!) في مقهى (دوفيل) على جادة الشان زيليزي بباريس مغرب كل يوم، نتطارح أنباء الوطن العربي و نتبادل التواصي بالصبر، و كان من بين المرتادين شيخ المنفيين محمد الفقيه البصري الذي عاد للمغرب بعد ما يقارب الأربعين حولا، ثم لم يعش طويلا فتوفاه الله في وطنه، و التحق بالمنفيين بعض الوجوه المعروفة أمثال الفريق سعد الدين الشاذلي أحد أبطال مصر و ذلك بصورة مؤقتة قبل أن يحل الرئيس مبارك مشكلته، و كذلك رئيس حكومة تونس الأستاذ محمد مزالي و الوزير القوي في الستينات بتونس أحمد بن صالح. و في يوم من الأيام جاءنا أحد الإخوة الليبيين وهو من أفضل المثقفين الليبيين و أكثرهم شهادات عليا و إنتاجا علميا، و قدمه لنا أحد أصدقائنا بقوله :" أقدم لكم أحد الكلاب الضالة.! " و ظللنا نضحك أياما على هذا التقديم العجيب، فعبارة "الكلاب الضالة" أطلقها النظام الليبي البائد على معارضيه في الثمانينات بل و كانت العبارة هي المصطلح المستعمل في وسائل الإعلام الليبي الرسمي!. و لله في خلقه شؤون. كما انضم للجماعة مؤقتا أيضا و بمحض اختياره د.أحمد طالب الإبراهيمي نجل أحد أبرز العلماء و مؤسسي جمعية العلماء الجزائريين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رفيق كفاح الشيخ عبد الحميد ابن باديس، و كذلك الرفيق في المنفى رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق و أحد أبرز علماء الاقتصاد الإسلامي عبد الحميد الإبراهيمي. و نلتقي أحيانا برئيس الجمهورية الإيرانية الأسبق أبو الحسن بني صدر الذي عرفته شخصيا عام 1978 أيام مخاض الثورة الإيرانية في باريس و معه صادق قطب زادة الذي أصبح وزير خارجية في مرحلة قيام الجمهورية ثم حكم عليه آيات الله بالإعدام و تم إعدامه رحمة الله عليه، و كنت في تلك الأيام الباردة بباريس أعد رسالة الدكتوراه لجامعة السربون حول الإسلام السياسي وأزور آية الله الخميني للاستفادة علميا و استكمال الرسالة، و ذلك في منفاه الأخير بقرية \\ نوفل لو شاتو في ضواحي باريس، ثم قابلت بني صدر عام 1982 حين هرب من الإعدام و استقر في بيت شقيقه بقرية \\ أوفر سير واز بفرنسا ولمست الدروس القاسية التي تعلمها الرجل من المأساة. و نعود للنوادر المضحكة المبكية التي كانت مع الأسف تشهد على مدى التخلف السياسي و الحضاري الذي عانيناه في غياب الرأي المخالف، فقد جاء أحد الإخوة المحامين العرب المنفيين ذات يوم إلى المقهى و معه رجل أوروبي طويل القامة عريض المنكبين أشقر الشعر، تعلو محياه ابتسامة لطيفة، فجلس بيننا كأنما تربطه بنا علاقة مودة قديمة، و شعرنا بأن الضيف الكريم يعرفنا عز المعرفة و يسأل عن أحوالنا و يتطلع إلى أخبار أوطاننا، ثم فوجئنا و اندهشنا حين قدم لنا صديقنا ضيفه ضاحكا قائلا:" أقدم لكم السيد (رايمون كندال) مدير منظمة أنتربول (مقر المنظمة في مدينة ليون الفرنسية ) وهو المكلف بالتفتيش عنكم في حال مطالبة دولكم بجلبكم و المسؤول عن توصيل البضاعة مكلبشة إلى أرض الوطن! " و بالطبع كان الرجل كذلك لكن بلا اقتناع بأن هذه النخبة من المثقفين و رجال الدولة المغضوب عليهم مؤقتا هي ممن تجري عليهم إجراءات إنتربول و من عتاة المجرمين، و ضحكنا وضحك الرجل معنا وهو المفترض أن يعتقلنا لكنه فضل الحديث معنا و المتعة في مؤانستنا و التخفيف من بلاوينا. و شرب معنا قهوة على نخب الأوطان المقهورة والطاقات المهدورة.