26 أكتوبر 2025
تسجيلحدثتكم عن صاحبي وبلدياتي الذي غاب عني سنينا، ثم اكتشفت أن المنصب والراتب الكبير جعلا منه مسخاً مغرورا ومتعجرفا، لا يتحدث إلا عن نفسه وسفراته ومقتنياته، فعاقبته مبدئياً بدعوته لطعام في مطعم ركيك يبيع الفول وتوابعه بسعر التكلفة، (مع تقديم البصل والفجل مجانا فوق البيعة كحوافز)، ثم تسامرنا وظل يستعرض إمكاناته المادية وعلاقاته الواسعة مع الناس «اللي هي»: وزراء ومثقفين أعلام ورجال أعمال من صنف بيل غيتس وانت طالع، وبمهارة لا تنقصني ولا ينقصها الخبث، حولت دفة الحديث إلى «الذكريات» وبدأت أسرد أحداث طفولة وصبا عايشناها أنا وهو، موجهاً الحديث إليه معظم الوقت: تذكر لما كنا نرعى الغنم وقمت أنت بكسر ساق معزة ناشزة لأنها دوختك بالهرب من القطيع؟ هل تذكر لما كنا نسرق البطيخ من المزارع المطلة على النيل ونختبئ بالمسروقات في حظائر الأبقار؟ أين بالله عليك أخونا مصطفى الذي كنت أنت تقوم بالتَنَمُّر عليه وتخويفه ومقاسمته إفطاره؟ هل تذكر يوم تسللنا سوياً إلى بيت جارتنا سكينة وسرقنا الكعك الذي كانت قد أعدته بمناسبة قرب قدوم زوجها من مصر؟ هل عندك أخبار أستاذ عزالدين الذي طردنا أنا وأنت من المدرسة لأن ملابسنا كانت خطراً على الأوزون؟ وهكذا صرت أردد على مسمع من شلة من الأصدقاء حصاد ذكرياتنا المشتركة في قرية ليست على الأطلس، ولم تكن قد عرفت الكهرباء ولا الماء الجاري في أنابيب، وهي الأشياء التي يستعر منها كل من يتعمد نسيان قديمه، وإظهار نفسه وكأنه من مواليد هوليوود، ولكن الظروف القاسية جعلته يعود للانتماء رسميا، وليس عاطفيا إلى بلد من بلدان العالم الخامس عشر، وأنا متأكد من أن صاحبنا ما كان ليتردد في إطلاق النار عليّ، ولو كان يملك مسدساً أو حتى قنبلة عنقودية!! والشاهد هو أنني وصاحبي ذاك أولاد جيل واحد، ونشأنا سوياً في ظروف بائسة بمقاييس هذا الزمان، و «عاجنين وخابزين» بعض، ولا أحسده على المنصب أو الراتب الكبير لأن وضعي الوظيفي والمالي أفضل مما حلمت به طوال حياتي، وليس من عادتي اشتهاء ما عند الآخرين، ويعرف عيالي عندما أرفض لهم طلباً، أن العبارة التي قد تحرمهم من الميراث هي «اشمعنى فلان أهله اشتروا له كذا وكذا»، فلا يهمني أن كان أهل فلان من أصحاب الملايين أم من مستحقي الزكاة، ما يهمني هو ألاّ ينظر عيالي إلى ما عند الآخرين ليتساءلوا: لماذا ليس عندنا ما عندهم؟ على كل حال حاصرت صاحبي بحديث ذكريات كان قد حسب أنه دفنها فكان أن تنازل قائلاً: سبحان مغير الأحوال، فقد تحول البؤس إلى نعيم.. وعيالي اليوم لا ينقصهم شيء... يقضون إجازاتهم في أوروبا... بالمناسبة عندي شقة في لندن.. ولا أحرمهم من شيء يشتهونه!!... باختصار هزمني الرجل، فقد كنت سادياً معه لأذكره بأن حاله الراهن «طارئ»، وأنه لا يعيب الإنسان أن يكون قد نشأ في أسرة فقيرة، بل يعيبه أن يتنكر لجذوره ويحسب أن الوظيفة هي «النعيم»! وأن التباهي بالعز والجاه أمر سمج وسخيف ومستهجن في كل الظروف والأحوال. جاريته لبعض الوقت بالزعم بأن لندن لم تعجبني، وبالتالي اشتريت شقة في بيفرلي هيلز في هوليود، وأخرى في مدغشقر، وتحدثت عن وديعة مصرفية في جزر فيرجن، وكيف أن شركة طيران اضطرت إلى الاستعانة برافعة «ونش»، لإدخال أم الجعافر الطائرة، لأن المجوهرات التي كانت ترتديها كانت تزن نحو عشرين كيلوجراما مكعبا، عندما كانت مسافرة إلى إيطاليا لشراء أحذية من فيتو أريتولي وهو الجزمجي الذي يزود بيونسيه وأوبرا وينفري، وطبعاً بإمكان أي عاقل أن يدرك أن كل ذلك كذب وخراطي وخرابيط وتخبيص، ولكن الغريب في الأمر أن كلامي ذاك أصاب صاحبي بالاكتئاب، خاصة أن صديقاً خبيثاً تبادل الحديث مع طرفٍ ما عبر الهاتف، وقال موجهاً الحديث إليَّ: يا أبو الجعافر، جماعة بي أم دبليو بيسألوا ممكن تصبر عليهم شهرين حتى تكون السيارة «التفصيل» جاهزة؟ فقلت له: قل لهم بلاش.. غيرت رأيي.. سأطلب رولز لنفسي، وفيراري لأم الجعافر ولامبورجيني للخدامة!! [email protected]