17 سبتمبر 2025
تسجيلفي تصوري أن ما استطاع الشعراء العظماء أن يحققوه من نفاذ إلى أعماق الإنسان في كل زمان ومكان، ينبغي أن يذكرنا دائما بأن الشجرة المثمرة العملاقة كانت في البداية مجرد بذرة صغيرة، وعلينا- من هذا المنطلق- أن نعود إلى تلك البذرة الصغيرة، وأن نتعرف- بالتالي- على ما تحمس هؤلاء الشعراء العظماء لقراءته عندما كانوا أطفالا صغارا، وهنا ينبغي أن نتوقف عند الينابيع الشعرية العربية وغير العربية التي نهل منها هؤلاء جميعا، لكن علينا- قبل التوقف عند هذه الينابيع- أن نقتطف هذه الفقرة المهمة والدالة من كتاب ممتع ورائع للشاعر العظيم صلاح عبد الصبور، وهو كتاب حياتي في الشعر، حيث يقول في هذه الفقرة: إن الفنان يولد في الفن، ويعيش فيه، ويتنفس من خلاله. وكل فنان لا يحس بانتمائه إلى التراث العالمي، ولا يحاول جاهدا أن يقف على أحد مرتفعاته فنان ضال. وكل فنان لا يعرف آباءه الفنيين إلى تاسع جد لا يستطيع أن يكون جزءا من التراث الإنساني، وهو في الوقت ذاته لا يستطيع أن يحقق دوره كإنسان مسؤول في هذا الكون. لو أننا انطلقنا من هذا الإطار النظري الشامل الذي حددته تلك الفقرة، لكي نطبقه بشكل عملي على الشعراء العظماء وعلى عطائهم الشعري الذي أبدعوه خلال مسيرة كل منهم مع الحياة ومع الفن، فلا بد أن نتوقف عند عدد من آبائهم الفنيين حتى تاسع جد، بشرط أن ندرك أنهم قد تأثروا أو أعجبوا ببعض هؤلاء الآباء الفنيين تأثرا عابرا وسريعا خلال مرحلة تكوينهم الشعري المبكر، كما تأثروا بآخرين من هؤلاء الآباء الفنيين، ونهلوا من ينابيعهم الشعرية بصورة عميقة خلال مرحلة ما بعد التكوين واتضاح الرؤية والطريق أمامهم. حين نتحدث عن الشاعر العالمي توماس ستيرنز إليوت، لابد أن نعرف أنه بمثابة أب فني لشعراء كثيرين من شعراء العالم، ممن عايشوا فظائع الحرب العالمية الثانية، فقد تأثروا به بشكل أو بآخر، وعلى سبيل المثال فإني حين زرت اليابان سنة 1998 أجريت حوارات مع عدة شعراء يابانيين، ووجدتهم يشيرون إلى مدى تأثرهم بإليوت، بل إن أحدهم وهو الشاعر متسؤو تاكاهاشي أكد لي أنه لم يتأثر بشعر إليوت فحسب، وإنما جاراه- بشكل عملي- في رفض الحضارة الغربية الزائفة، حيث شيد لسكناه بيتا منحوتا في جبل، تحف به الخضرة والأشجار الرشيقة العالية، ويطل مباشرة على المحيط الهادئ، ومن الطريف أن هذا الشاعر الياباني قد أصر على أن يكون لقائي معه في بيته الجبلي، لأنه لا يحب طوكيو التي تنهج نهج الحضارة الغربية الزائفة! إذا ابتعدنا عن اليابان وعن شعرائها الذين تأثروا بإليوت، واقتربنا من حدود أرضنا المشرقية العربية، فلا بد أن نشير إلى الشاعر الإيراني أحمد شاملو الذي يبدو تأثره بإليوت تأثرا واضحا وجليا، فهذا الشاعر الكبير هو رائد الشعر الحر في إيران، وقد ولد في طهران سنة 1925 قبل أن يولد اثنان من رواد الشعر الحر العرب بسنة واحدة، حيث ولد كل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي سنة 1926 وكما كان السياب عضوا في الحزب الشيوعي العراقي واعتقل عدة مرات، فكذلك كان أحمد شاملو عضوا في حزب توده الشيوعي الإيراني، واعتقل سنة 1943 ولم يفرج عنه إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد رحل أحمد شاملو عن عالمنا يوم 23 يوليو سنة 2000 وله قصائد عديدة مترجمة من الفارسية إلى لغتنا العربية الجميلة، بما يتيح للمهتمين من الباحثين أن يعقدوا مقارنات نقدية بين حركتي الشعر الحر في كل من إيران وأقطار أرضنا العربية. وفيما يتعلق بساحتنا الأدبية العربية، فإننا نلاحظ مدى الاهتمام المتحمس بإليوت، وقد كان الناقد الموسوعي الكبير الدكتور لويس عوض هو الرائد الأول في ترجمة العديد من قصائده الشهيرة، وهي القصائد التي نشرها متتابعة في مجلة الكاتب الشهرية المصرية ابتداء من العدد الثاني الذي صدر في شهر مايو سنة 1961 ويضم هذا العدد ترجمة لقصيدة الرجال الجوف الشهيرة، وقد تتابع مترجمو إليوت بعد لويس عوض، وأذكر منهم الدكتور فائق متى والدكتور ماهر شفيق فريد والدكتور عبد الواحد لؤلؤة. أما الشاعران العربيان اللذان تأثرا بإليوت أكثر من غيرهما فهما بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور، ولهذا فإننا نجد عدة دراسات متخصصة، تتناول هذه القضية، أذكر منها دراسة مهمة وإن كانت متحيزة للسياب، هي دراسة الدكتور محمد شاهين الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت سنة 1992 وهي بعنوان إليوت وأثره على عبد الصبور والسياب، ومن الطريف أن أشير هنا إلى أن السياب يبدو متذبذبا في الألقاب أو الصفات التي كان يضفيها على إليوت على ضوء تقلباته السياسية، حيث وصف إليوت بأنه الشاعر الرجعي عندما كان عضوا في الحزب الشيوعي العراقي، ثم وصفه بعد ذلك بأنه شاعر العصر العظيم عندما تخلى عن هذا الحزب، بينما نجد أن إليوت ظل يحظى بكل صفات التكريم والتقدير من جانب صلاح عبد الصبور في حواراته وفي كتاباته عنه، لأن موقفه منه كان منطلقا من حس فني، وليس مرتبطا بموقف سياسي. هذا الذي قلته يعني أن السابقين يؤثرون في اللاحقين، وهذا ما نرصده في كل مجالات الحياة، حيث ينبثق كل جديد مما سبقه، حتى وإن ادعى المدعون غير ذلك!