18 سبتمبر 2025
تسجيلأول من أثار انقلاب الموازين بين إسرائيل والعرب هم المفكرون والخبراء الإسرائيليون أنفسهم وقبل سواهم لأنهم يخافون شيئا قادما اسمه زوال إسرائيل من خارطة الشرق الأوسط وهذه الفرضية ليست وهما أو ضربا من الخيال السياسي بل هي توقع يكاد يكون (أريطماطيقي) أي حسابي علمي كما تؤكده حقائق الديمغرافيا والجغرافيا ومسار الأزمات الكبرى منذ الحربين العالميتين إلى اليوم ونواميس لعبة الأمم. وعلى رأس هؤلاء نجد أشهر الفلاسفة الفرنسيين من الدين اليهودي (ستيفان هيسيل) الذي أدان بشدة العدوان الراهن على غزة والذي تسلم مفاتيح القدس الرمزية من أيدي سفارة فلسطين بباريس وكذلك الكاتب الإسرائيلي المعروف (شلومو صاند) صاحب كتاب (كيف اخترعت أرض إسرائيل؟) ونجد الكاتب الفرنسي اليهودي (إيريك رولو) والنائب بالبرلمان الأوروبي المواطن الفرنسي الألماني من أصول يهودية (دانيال كوهن بانديت) كل هؤلاء يشكلون ضميرا جديدا للشعب اليهودي ليذكروا قادة الهمجية الإسرائيلية وينذروهم بأنهم بمواصلة سياسات القمع والاغتيال وقتل الأبرياء إنما يسارعون بالدولة العبرية نحو حتفها وأنه إذا رغب اليهود في أن تكون لهم دولة فلا بد من الاعتراف للشعب الفلسطيني بحقوقه المشروعة على ضوء قرارات الأمم المتحدة وحسب مواد القانون الدولي. وبالطبع فرغم اعتدال وتوازن هذه المواقف اليهودية النادرة فإن لا بنيامين ناتنياهو ولا إيهود باراك يعيران اهتماما لها لأسباب انتخابية وحزبية تجعل من كل مناسبة سياسية إسرائيلية داخلية فرصة لمزيد إبادة شعب فلسطين بأطفاله ونسائه بمرأى ومسمع من العالم الأصم الأخرس. أما الحجة الجديدة التي أصبح هؤلاء العقلاء اليهود نسبيا يلوحون بها فهي الحقيقة الساطعة التي غيرت قواعد السلم والحرب وحورت بعمق أسس العلاقات الدولية في الأحداث الراهنة عربيا وإقليميا وعالميا ألا وهي حجة الربيع العربي الذي مرت أزهاره وثماره من هنا وأطاحت بأساطين التعايش مع المذلة الصهيونية والقهر العنصري فهذا الربيع أوصل نخبا عربية منتخبة إلى السلطة وأصبحت جماهير الناس هي التي تفرض إرادتها وتدافع عن حقوقها وتحاسب مسؤوليها وكما رأينا هذه الأيام في عقر ديار غزة العزة وتحت قنابل العدو الغاشم وأمام جرحى غزة في مشفى غزة هذه الثلة من الرجال الجدد أمثال هشام قنديل رئيس حكومة مصر ورفيق عبدالسلام وزير خارجية تونس وأبو الوليد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس فإن فلسطين ما قبل الربيع العربي ليست هي فلسطين ما بعده. مياه جارفة وثائرة جرت كالأنهار من تحت جسور الشرق الأوسط تضطر اليوم زعماء الدولة العبرية إلى مواقف أخرى غير العنجهية والبلطجة بلا حسيب أو رقيب. بل تضطر الدولة الأمريكية الراعية لإسرائيل أن تعيد حساباتها تدريجيا وأن تشعر بأن ممارسات إسرائيل الضاربة بالقانون الدولي وبمجلس الأمن عرض حائط المبكى أصبحت عبئا ثقيلا قد لا تتحمله ظهور الأمريكان والأوروبيين على المدى البعيد. فالذي كان متاحا مباحا لإسرائيل قبل 2011 لن يكون كذلك بعده لأن الشعوب العربية هي التي اكتشفت نفسها سنة 2011 وأدركت ما لديها من مخزون حضاري وبطولي عربي إسلامي كان طيلة نصف قرن مكبوتا بقمع آلة الإذلال والتذييل التي عملت عملها عندما كان الرؤساء لا يرتقون سدة الحكم إلا حين تؤيدهم القوى الغربية الخارجية وتأخذ منهم صكوك التعاون مع العدو الغاشم المعربد في الشرق الأوسط وحين تضمن وتؤمن خضوعهم للنظام العالمي الجائر ومنظومة بريتن وودس المالية والاقتصادية الناهبة لثروات أممهم. في غزة اليوم تغير مشهد الرعب بل قل توازي الرعب لدى الشعب الإسرائيلي ولدى الشعب الفلسطيني مع هطول الصواريخ على القدس الغربية وعلى تل أبيب لكن بفارق عظيم هو أن رعب أطفالنا وأبريائنا رعب نعيش معه منذ 65 سنة نتوارثه جيلا بعد جيل ونصمد ونقاوم في حين أن رعب الصهاينة هو رعب السارق المغتصب لأرض الغير ورعب المتجبر المحتاج لغطاء حلفائه ومالهم وسلاحهم. كنا نتابع اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة يوم السبت الماضي 17 نوفمبر وتمنينا لو أشار أحد الوزراء إلى تزامن هذا اللقاء مع ذكرى وعد بلفور سنة 1917 حين بدأت تتجسد أشباح مخطط إجرامي غير مسبوق في التاريخ الحديث أحل شتات شعب يهودي دخيل محل شعب فلسطيني أصيل في أكبر عملية تزوير للتاريخ وللجغرافيا وللحضارة في هذا العصر.