14 سبتمبر 2025
تسجيلكنت في بلد عربي لحضور أحد المؤتمرات الفكرية في شهر يونيو الماضي، عندما بدأت قوات تنظيم الدولة الإسلامية، بالسيطرة على مدن عديدة في العراق بطريقة تبعث على الاستغراب والتوجس، مع هروب وحدات عسكرية عراقية من تلك المناطق، وترك أسلحتهم وعتادهم لتستولي عليها تلك الجماعة التكفيرية، وتستمر في امتداداتها في المدن الأخرى، خاصة الشمال العراقي، إلى جانب تفوقها العسكري في محاور عديدة في سوريا مع النظام ومع المعارضة أيضا، والأغرب أن أنصار تلك الجماعة التكفيرية المتطرفة، كانوا يتظاهرون في تلك الدولة عندما كنت متواجدا بها في تلك الفترة، وفي بعض مدنها الكبيرة، وكانوا يرفعون الأعلام والشعارات، تأييدا لنجاحاتهم المتواصلة في العراق، دون أن تتحرك قوات الأمن في تلك الدولة لوقف تحركاتهم ونشاطهم السياسي بين سكان المدن لتأييد داعش والانضمام إليها.وطرح العديد من الكتاب والباحثين، تحليلات شتى لوصف ظهور داعش، ومن معها، ومن ضدها؟ ومن يمدها بالسلاح؟.. إلخ، فقد اتهمت من البداية من قبل المعارضة السورية (المعتدلة)، بأن داعش صناعة إيرانية/ بعثية وأنصارهما في لبنان والعراق، لعرقلة تقدم المعارضة السورية، وخلق صراع داخلي بينهما، ليتمكن النظام السوري، من ضربهما معا في النهاية، وعندما بدأت داعش في ضرب قوات النظام ومؤيديه من المليشيات الأخرى في بعض المدن، وظهر (جز رقاب بين أنصارهم)، اتهمت داعش بأنها من صنع المخابرات الأمريكية، وأنها تأتمر من قبل الاستكبار العالمي. وزاد من الشكوك والاستغراب، أن الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، توقفوا عن دعم المعارضة السورية، والمتمثلة بالجيش الحر والأجنحة الأخرى، بدعوى أن الأمور ليست واضحة في هذا الصراع، وأن الأوضاع في سوريا ملتبسة، بعد ظهور أخبار التطرف والغلو في بعض المقاتلين، وهذا ما جعل البعض يعتبر أن داعش، أقرب إلى مسمار جحا بالنسبة للغرب، لترتيب أوضاع وإستراتيجيات مقبلة للمنطقة، أو خطة لإنهاء ما بقي من الربيع العربي، تحت مسمى (خطر الإرهاب والغلو والتطرف)، والواقع أن ظهور داعش ومجموعات أخرى فجأة، وبقدرات وإمكانات كبيرة، تجعل الكثيرين يشككون في فرضية، أن مساحات وقدرات وإمكانات، وضعت لداعش، لتتمكن من فرض نفسها على الواقع الميداني والعسكري في سوريا والعراق، حتى يتم التمهيد لخطوات أخرى لترتيب المنطقة على أسس تراها بعض الدول أنها أكثر حماية واستقرارا للمنطقة باعتبارها من المناطق الحيوية المهمة اقتصاديا.والحقيقة أن هذه الأقوال والترجيحات مجرد تكهنات، لا ترتقي للمصداقية الدقيقة، لأن ما يجري حتى الآن عصي على التحليل الذي لا يقبله العقل تماما، فظهور داعش فجأة وبتلك القدرات القتالية وإعلان الخلافة على قرى في العراق، يبعث على الاستغراب، كما أن الحشد الدولي الضخم، لمحاربة داعش يطرح علامة الاستفهام أيضا، لأنه بذلك تم تصوير جماعة داعش، وكأنها دولة عظمى، بمعنى أن محاربة داعش لا تكفيها دول المنطقة، بل تحتاج إلى تدخل دولي كبير للقضاء على هذا التنظيم، وهذا ما يجعل الحليم حيرانا. والبعض الآخر يرى أن ظهور التطرف والتكفير والالتفاف، في دول بعينها، كسوريا والعراق، يبرز أن القمع والاستبداد، هما أحد الأسباب الأساسية لظهور التطرف والغلو، وأن هؤلاء ضحايا الظلم والاستبداد في هذه الدول، وإلا لماذا دول بعينها يظهر فيها هذا الفكر المغالي المتطرف، دون غيره من الدول، ويلقى قبولا كبيرا من الكثير من السكان، فالأسباب داخلية بحتة كما يرى البعض، كما أن هذا الفكر، ليس نبتة جديدة ظهرت مع داعش والنصرة، فهو موجود عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن نتذكر، جماعة التكفير والهجرة التي قتلت الشيخ الذهبي وزير الأوقاف المصري في 1977، وهذه الأفكار التكفيرية، التي تحملها التكفير والهجرة، لا تختلف كثيرا عن فكر داعش وجماعات التطرف والغلو الأخرى، وإذا كان ثمة اختلاف بين تلك الجماعات، فهي اختلافات هامشية وليست جوهرية، فالفكر التكفيري ينمو ويتحرك في مساحات التضييق والقمع، ويتغذى على انسداد الأفق، والحرمان، والإحباط واليأس، ولا نعتقد بصحة المقولات التي ترى أن هذا التنظيم صنعته الولايات المتحدة، أو إيران، أو حزب البعث أو غيرها، بل إن البغدادي الذي نصّبته داعش خليفة للمسلمين، كان أحد أعضاء تنظيم أبو مصعب الزرقاوي في العراق الذي قتلته القوات الأمريكية في أحد الكمائن قبل سنوات، إنما ربما أتيحت لهذا التنظيم، الفرصة للتمدد، لتحقيق أهداف لأطراف الصراع، لكنم ليسوا صناعة أجنبية بالقطع، لافتراق الأفكار والمشارب والتوجهات.الحشد الدولي لقتال داعش فيه مبالغة كبيرة في قدرات تنظيم الدولة، فمهما كانت قدرات هؤلاء وإمكاناتهم العسكرية، فإنهم لا يملكون قدرات دولة واحدة فقط من دول التحالف الجديد لقتال هؤلاء، فطائرات حربية على عدد الأصابع مع قوات برية من دول المنطقة، تكفي لإنهاء قدرات داعش وتقضي عليه تماما، مع ما تكنيه هذه الحرب على الشعبين السوري والعراقي، لتضاف هذه الحرب الداعشية محنة أخرى إلى معاناتهم التي يرزحون تحتها منذ سنوات.لقد صور أحد سكان العراق قبل فترة لإحدى الصحف، عن أسباب ظهور التطرف والغلو في العراق على وجه الخصوص، وقال كلاما دقيقا وصادقا ومعبرا، وهو أن ظهور هذه التنظيمات المتطرفة والعنيفة، ليس كما قال جورج بوش الابن، من أن العراق ما بعد صدام، سيكون نموذجا يحتذى به للديمقراطية بالمنطقة، فظهر العراق، نموذجا للتطرف والتكفير والصراع الطائفي البغيض، فعلى مدى سنوات ـ كما قال ـ "برزت الصورة الأكثر سوداوية في تاريخ العراق، فشباب في عمر الزهور فقدوا آباءهم بين قتيل وشريد، واعتقال وتعذيب، وقد شبَّ هؤلاء عن الطوق كثيرا، فضاعت كلمات الاعتدال، وذهبت أصوات الحكمة والتعقل، وتعاهد القوم على الثأر ورد الصاع، فخرجت من رداء الاستبداد موجات التطرف العاتية التي أحرقت الأخضر واليابس، وداست على كل القيم، وازداد المشهد تعقيدا، وانزوى العقلاء وارتفعت رايات التكفير والانتقام بأسماء وعناوين مختلفة، كلها تدعو إلى الحق بطريقة التصفيات والأخذ بالثارات، فماذا كانت النتيجة؟ زاد الاحتقان وسقطت المحافظات وتبخر الجيش الطائفي ونزح الناس وتكلمت البنادق وتحدثت الوحشية، والسبب هو الاستبداد والثأر المقابل". وهذه الصورة المروعة إلى قالها هذا الشخص الذي تكلم بحرقة وألم، لكن من المهم أن تكون هناك مراجعة لكل السياسات القائمة التي تعتمد على القوة والحلول الأمنية، لذلك لابد من التفتيش عن المشكلة، وإعادة النظر فيما هو قائم من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية، فلن ينتهي التطرف والغلو بمجرد خسارته في المواجهة المقبلة، وهي متوقعة فعلا، لكن هذا الفكر وهذا الحقد المتبادل والمظالم والإقصاء، ستكرر نفسها بأدوات وإمكانات أخرى، إذا لم نراجع تلك السياسات القائمة، فالحل المقبل في القضاء على التطرف والغلو والتكفير، في تأسيس رؤى جديدة تقوم على العدل ورفع الظلم، والبعد عن الإقصاء والاستبداد، فالقوة وحدها لن تستطيع القضاء هذه التوترات والجماعات، لأنها تتغذى ـ كما قلنا ـ على وجود المظالم، وغياب العدل، وإقصاء التسامح والتآلف بين كل المكونات.****التحالف الدولي في حربه على داعش سينال ما يريد من نجاحات في حملته العسكرية المقبلة، وفي أقصر الأيام لو أراد، إلا إذا كان هناك مآرب أخرى!! لكن هل ستحقق الحملة العسكرية ما تريده في الأفق الأبعد في القضاء على التطرف والغلو والتكفير؟.. وللحديث بقية.