15 سبتمبر 2025
تسجيلكل امرئٍ في الحياة الدنيا، هو خاضعٌ منساقٌ لقدر الله تعالى وقضائه، عاجز أمامه لا يملك معه خِيرة ولا حيلة، ولا ريب أنه إذا نزل وحل، أصابه لا محالة، قال شوقي رحمه الله:لا يملك الإنسان من أحواله ما تملك الأقدارُ مهما قدّراوقال آخر:ما للرجال مع القضاء محالةٌ ذهب القضاءُ بحيلة الأقوامِفالأقدار كالسهام المصوبة نحو أهدافها، غير أنها مسددةٌ مقوّمة لا تخطئ غرضها، ولا تفوته، ولا تحيد عنه بحال، بما تحمل من سراء وضراء، فيهما النعماء والبأساء، سواءٌ في ذلك المؤمن والكافر، بيد أنّ المؤمن يوجب عليه الإيمان، كركن من أركانه، أن يكون مؤمناً بقدر الله، أي موقناً أنه من عنده سبحانه وتعالى وبتقديره، بحالتيه المتضادتين خيره وشره، ولاسيَّما في حالة شره، أي في حالة الأقدار المؤلمة المزعجة، وكل ما لا يرضاه ولا يحبذه الإنسان، إذ في ذلك الأهمية الشديدة الأكيدة، التي لابد منها ليتحقق الإيمان الصحيح الكامل بقدر الله تعالى، بتمام اليقين والتسليم والخضوع له فيما قدّر، ولو خالف أمنيات ورغبات النفس، حتى لا يكون حال المؤمن كحال الذين جاء وصفهم في القرآن في سياق الذم والتوبيخ، ممن انحرفوا في اعتقادهم بالقدر، قال جل وعلا مخبراً عنهم:(وإنْ تصبهم حسنةٌ يقولوا هذه من عند الله وإنْ تصبهم سيئةٌ يقولوا هذه من عندك قل كلٌ من عند الله فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً)، قوله تعالى: (من عندك) أي من عند رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم بين سبحانه للإنسان في الآية التالية، أن كل ما يصيبه من شرٍ يسوؤه من القدر، يكون سببه من عند الإنسانِ نفسِه، نتيجة ذنبٍ اقترفه فعوقب عليه، أو واجب مفروضٍ قصّر فيه، قال جل ثناؤه:(ما أصابك من حسنةٍ فمن الله وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك)، وقال أيضاً جل شأنه:(وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير). وهذه بشرى من رحمة الله تعالى ورأفته وفضله بعباده، أنه سبحانه يعفو عن كثير خطأ خلقه، وأنه كما قال:(وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإنّ ربك لشديد العقاب)، إذ لو الأمر غير ذلك، لكان الحال مثلما يصف القرآن (ولو يؤاخذ اللهُ الناسَ بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكنْ يؤخرهم إلى أجلٍ مسمّى فإذا جاء أجلهم فإن اللهَ كان بعباده بصيرا)، إلى غير آية تُلمح إلى هذا المعنى.ذلك هو السبب الرئيسي والأساسي للبلاء، قال تعالى:(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناسِ ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجون)، وتأمل قوله تعالى:(بعض الذي عملوا) أي شيءٌ قليلٌ وليس الكل، ومراد الله من البلاء، كما بينته الآية السابقة: (لعلهم يرجعون)، يرجعون عن ذنوبهم وعصيانهم، ثم يتوبون وينوبون إلى الله، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قول بليغٌ في ذلك، قال:(ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)، وأقول: رحمة الله على مَن إذا نزل به بلاءٌ، رجع إلى نفسه، فبحث فيها وفتّش ليحاسبها، فإن كان مذنباً مقصراً، تاب وأناب، وإن كان على خيرٍ حمد وشكر.لكنّ الأقدار بنوعيها خيرها وشرها، وما ينشره ويطويه كل نوعٍ منهما، ويجلبه للإنسان من أحاسيس ومشاعر وأحوال، متباينة متناقضة، من أفراحٍ وأتراح، ومسرّاتٍ ومضرّات، وما دار من سَعد ونحس، بيد الأقدار، لا يكونان كذلك إلا من حيث نظرة الإنسان لما يصيبه منهما، وانطلاقاً من حكمه العقلي عليهما، الذي لا يكون في الغالب، إلا حكماً ناقصاً قاصراً، لكونه لا يصدر عن رؤية وافية ضافية، يكتنفها الإيمان، وتحفّها الحكمة من كافة جوانبها، فيأتي الحكم من ثَمَّ صادقاً منطبقاً على الحقيقة، بعد أن يكون قد نَفِذ إلى كُنْه حكمة ما أصابه من قدر، فإن ما يظنه الإنسان شراً، ربما هو ليس بشر، وما يحسبه خيراً له، قد يكون هو الشر بعينه،(وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، يتجلى هذا تمام الجلاء في أمر المؤمن كما سنأتي بالحديث عنه. وفي هذا يقول الشاعر:تجري الأمور على حُكمِ القضاء وفي طيِّ الحوادثِ محبوبٌ ومكروهُوربما سرّني ما كنتُ أحذرُه وربما ساءني ما كنت أرجوه