12 سبتمبر 2025

تسجيل

المبدعون والإيمان

21 مارس 2024

شاع كثيرا أن المبدعين بعيدون عن الإيمان. في حوار تلفزيوني قصير سألني المحاور ما هي علاقتك بربنا؟ قلت لم يغادرني الإيمان منذ الطفولة. وحكيت له كيف كان والدي وأنا في حوالي الخامسة من عمري في أزمة في عمله ستنتهي بالفصل، بسبب ضياع بعض أشياء من مخازن العمل ولا يعرفون الجاني. كان أبي متدينا بسيطا وكانت قراءة القرآن هي كل بهحته. في تلك الليلة كنت نائما جواره فوق السرير، وكان يردد أسماء الله الحسنى. حين جاء اسم «اللطيف» توقف عنده، وصار يردده بقوة وشجن، وأنا يقظ جواره، فإذا بسقف الغرفة ينشق ويهبط منه طائر يرفرف علينا، ثم يطير ويعود السقف كما كان. أصابني الرعب وألقيت بنفسي على صدر أبي وأنا أصرخ، فهدهدني وقال لي لا تخف، هذه علامة خير من الله. في اليوم التالي ذهب أبي إلى العمل فوجدهم قد قبضوا على الجاني وانتهت القصة. هذا شيء لم أحلم به ولم أتخيله، لكني رأيته، ومن يومها وإيماني بالله قائم. أعداد غفيرة احتفت بحديثي، وقليلون جدا اعتبروه وهما وخرافة. شجعني هذا أن أتوسع قليلا في الحديث عن الإيمان هنا والآن. لقد درست الفلسفة وعرفت اتجاهات الفلاسفة، ومن هو ملحد ومن هو مؤمن، وانتميت يوما إلى اليسار خاصة بعد هزيمة 1967 وأنا بعد في العشرين من عمري، لكن وجود الله لم يبتعد عني أبدا. من التاريخ عرفت كيف أدرك قدماء المصريين وجود الله ويوم الحساب، أو الخروج إلى النهار، وكيف كانوا يدفنون مع الميت أشياء يحبها، حتى إذا استيقظ يوم الحساب وجد معه ما يحبه. كيف بنوا الأهرامات مدافن الملوك محدبة النهاية ليسهل انطلاق الروح إلى السماء. الإيمان عقيدة راسخة عند المصريين من قديم الزمان. حين جاءت المسيحية إلى مصر لم يقاومها المصريون وآمنوا بها، ونالهم من التعذيب الكثير جدا حتى آمن بها الرومان أنفسهم حكام مصر. حين دخل المسلمون مصر لم يقاوم المصريون الإسلام أيضا. السبب في الحالتين هو أن التوحيد عرفه المصريون قبل الأديان السماوية مع إخناتون، الذي جاءت بعده اليهودية أول الأديان السماوية. ثورات وانتفاضات المصريين ضد الحكام المسلمين، كانت لأن الجزية كثيرا ما تحولت إلى جباية يتم جمعها بلا استحقاق، لكن لم تكن ضد الدين. عاش المسلمون وما بقي من الأقباط في سلام اجتماعي فلم نسمع يوما عن حرب طائفية بينهم. حاول بعض الحكام إشعال هذه الفتنة لكنهم فشلوا فيها دائما. في طفولتي في مدينة الإسكندرية رأيت الجميع، مسلمين وأقباطا، يحتفلون بأعياد الأولياء وأعياد المسيحيين معا أمام المساجد والكنائس وأحيانا داخلها. المهم أنه شاعت حكاية أن المبدعين كثيرا ما يكونون ملحدين، وهي شائعة قد تكون غير مقصودة وساذجة، لأن الكتّاب يعرفون أن مصدر إلهامهم هو السماء وما فوقها. حتى لو عاشوا حياة بها صعلكة وخروج عن المألوف، فالحياة ليست الإبداع. الإبداع ساعات من الوحدة مع الله والإلهام، لا يعرفها إلا من كابدها. الإيمان ببساطة شديدة هو أسهل طريق لتحمل الظلم والطغيان، فيكفي للضعيف قول حسبي الله ونعم الوكيل حين يعجز عن الحصول على حقه وتستمر الحياة. والإيمان من أبسط تجلياته أنه «لا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم». لقد أدرك المصريون ذلك وصار يوم الحساب، هو اليوم الذي لن يهرب فيه أحد من العقاب، حتى لو هرب منه في الدنيا. فالإيمان بالله ليس وهما ولا خرافة، لكنه أعظم طريق لتستمر الحياة بأكبر قدر من العدل والمساواة.