14 سبتمبر 2025
تسجيلقطع العالم الطريق الفاصلة ما بين الاقتصاد والسياسة والحرب خلال العقود الثلاثة الماضية بشكل غير معلن بل إن الخبراء وحدهم هم الذين اكتشفوا العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة والحرب. أصبحنا نرى الدول المتعاظمة مطالبة من قبل شعوبها بتقديم حلول سياسية لمعضلاتها الاقتصادية وإذا تعذر الأمر وعجزت السياسة فالحرب هي الحل. وهذا الخطاب واضح مثلا من نبرات خطاب السيدة هيلاري كلنتون الأسبوع الماضي حول شروط الإعانة الأمريكية لمصر حيث وضعت نوعية العلاقات بين مصر وإسرائيل كمعيار لتقييم السياسات المصرية وبالتالي فإن القاهرة ما بعد الربيع مطالبة بتقديم شواهد احترام المصالح الأمريكية الحيوية مستقبلا دون تغيير عميق لما عرف عن مصر في السابق. كما أن عودة الحرب الباردة ما بين أمريكا وروسيا والصين (حول سوريا وحول الدرع الصاروخية مثلا) توحي بأن عملية لي الأذرع هي الأصل لتغيير نوع العلاقات الراهنة بين مجموعات من الدول تتناقض مصالحها وتتضارب خططها وتتناحر شركاتها وتتعادى شعوبها بما لا يخدم السلام العالمي وبما يهدد المصالح العربية في دولنا الهشة. فنحن كأنما نكتشف لأول مرة الخلافات الجوهرية بين مجموعات الدول المتقابلة في شبه مواجهة وهذه المجموعات هي كالتالي: 1- الولايات المتحدة تتزعم فريقا من الدول مثل كندا وأستراليا وعدة دول أوروبية أهمها بريطانيا تنادي برفع كل القيود المفروضة على المبادلات التجارية وتحرير الاقتصاد لتعزيز الليبرالية وهذا الطريق حسب عقيدة هذه الدول هو الكفيل بزيادة النمو ومضاعفة الإنتاج وخلق دينامكية التنمية وتوزيع خيرات وثمار التنمية على كل شعوب العالم. وبالطبع فإن هذه المنهجية ليست مبتكرة لأنها وليدة المفكرين الاقتصاديين الأوائل أمثال أدم سميث (1723-1790) وجون ماينار كاينز (1883- 1946)، لكن المنظرين الجدد في الإدارة الأمريكية (مثل السيناتور ماك كاين) يوظفون هذه النظريات لخدمة مشروع سيادة اقتصاد السوق وإعطاء الأولوية لإنتاج تلك البلدان المشاركة في هذه العقيدة الليبرالية المتشددة تحت غطاء شرعية المنظمة العالمية للتجارة ولعل هؤلاء المنظرين اهتدوا إلى أن التغييرات التي أنجزها الربيع العربي لا بد أن تحافظ على هذه العقيدة وأن تعزز غلبة هذا الفريق في ضمان التزود بالنفط والغاز بل أن تصبح الطاقة تحت الرقابة الأمريكية المباشرة حتى لا تطمع روسيا والصين في مزاحمة القوة الأمريكية الأعظم. 2- فرنسا تتزعم فريقا من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبلجيكا واللكسمبور والنمسا تطالب بتفكيك العولمة الاقتصادية إلى حلقات تراعي خصوصيات البلدان وعدم تدويل الملفات الاقتصادية وتدافع مثلا عن مبدأ مساعدة القطاع الزراعي في بلدانها بينما ترى المجموعة الأولى بأن مساعدة الدول للمزارعين تعيق عملية التنافس الحر وتناهض مبدأ التجارة الحرة. 3- القوى الكبرى الجديدة كما أصبحت تسمى وهي الصين والهند والبرازيل تشكل فرادى أو مجتمعة قوة ضغط وتأثير تقرأ لها واشنطن ألف حساب، وهي دول كانت بالأمس القريب تعد من بين الدول النامية وضمن نادي العالم الثالث وقفزت إلى الطليعة بفضل إنتاجها الصناعي الذي استقل عن الارتباط بالخارج وبفضل انخراطها السريع في الثورة الرقمية ومجتمع المعلومات بل وتحولت إلى مصدرة لجميع أصناف المنتجات النسيجية والتكنولوجية والغذائية والإلكترونية لكل أنحاء الدنيا مما طرح قضايا جديدة وطارئة لم يكن يعرفها الاقتصاد العالمي من قبل مثل قضية غزو النسيج الصيني أو غزو الحواسيب الهندية أو السيارات البرازيلية لأسواق أمريكا وأوروبا في ظرف زمني غير مسبوق. وهذه القوى القادمة لها شروط تحاول فرضها على منظمة التجارة العالمية وأهمها شرط الشراكة الكاملة مع المجموعات المهيمنة وتحديدا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا مجرد التنسيق والتعاون بعقلية السيد والعبد كما قال وزير التجارة الدولية البرازيلي. 4- مجموعة البلدان الهزيلة والمتقبلة للمساعدات الدولية (وأحرى بنا أن نقول الصدقات) وهي البلدان التي كانت مستعمرات أوروبية ثم عندما استقلت ظلت مراتع للاستعمار ومختبرات للتجارب من جميع الأصناف، بما فيها التجارب النووية إلى عهد قريب مثل ما يثار أحيانا من عمليات دفن النفايات النووية الأمريكية والأوروبية في بعض البلاد المتخلفة وهذه البلدان التي أصبحت تصدر المهاجرين لدول الشمال المرفهة بل وتصدر الأوبئة أصبحت محل اهتمام من الغرب لهذه الأسباب أي الخوف من تحولها إلى بؤر التهجير ونقل الإيدز وقض مضاجع السادة النائمين المطمئنين إلى منظومة بريتن وودس النقدية العالمية الجائرة وإلى نواميس صندوق النقد الدولي التي خربت بيوت شعوب مستضعفة وزادت من حفر خنادق الظلم بين البلدان ووسعت من دائرة الحرمان وبررت الحروب الأهلية والمجازر في عدة أقاليم من العالم آخرها هذه الأيام مجاعة في الصومال ومخاطر أزمات كبرى في كل البلدان العربية التي تغيرت أنظمتها سنة 2011. وهكذا تدريجيا، تنزلق دول العالم من الوفاق المزيف إلى التعاون الاقتصادي المخادع إلى المواجهة السياسية والشقاق الدبلوماسي ثم تدريجيا إلى التلويح بالحروب وتتبدل شيئا فشيئا منظمة الأمم المتحدة لتصبح في الواقع منظمة الأمم المتناحرة! ولا يمكن فهم مسار الملف النووي الإيراني أو التعاطي مع أحداث سوريا إلا في هذا الإطار.