14 أكتوبر 2025
تسجيلبينما كان "جاشو فان الستيني" يعدو القصيد، على رائحة حطب السمر المحترق ممسكاً فنجال من قهوة صفراء، منقوش بانحناءات عربية الهوية، يتدفق منه رحيق الهيل المختوم. بدى ككائن عجائبي بلغ من الغرابة ما تبلغه سمكة خلقت لاستنشاق الهواء، والغرق في الماء، أو كدرويش صوفي بيمينه صولجان من ذهب مرتدياً الحرير ويلف منكبيه بفرو الثعلب الاحمر الألسكي. بنفس القدر من الغرابة وقفنا نتتبع النبرة البدوية الخالصة، حتى وصلنا لمصدرها الذي اعتلى على ملامحه، انحناءات شاب غربي نحت الجليد قسماته الشقراء، وعينيه الزرقاوان. لبثنا ملياً غير قليل نحاول بفشل تركيب الصوت على الصورة، حينها قررنا فك طلاسم ذلك الشخص الغربي ذو اللكنة البدوية، لنستل اقلامنا معلنين غزوتنا على "جاشو" او كما يُطلِق على نفسه "بومتعب" سابرين غور اسراره، التي بلغ تعقيدها، ترانيم الهنود الحُمر الطائفين بنار المجوس ليلة النيروز. بحفواة العرب وكرم ابناء البادية، اطلق صيحة مفادها الترحيب، جلسنا بجواره نسأله عن اسمه ونشأته.. ومن هو ومن اين هو؟.. ولماذا هنا.. وكيف؟ بدت اسئلتنا متزاحمة مندفعة بقدر رغبتنا في التعرف اليه. يقول بو متعب(25) عام، انه ابن لاب امريكي مسيحي وام امريكية من اصول تركية مسلمة، يعيش بولاية تيكساس بالولايات المتحدة الامريكية، فـ"شاجو" لم يكن يعلم الكثير عن الوطن العربي وبالتحديد منطقة الخليج قبل قدومه اليها. زادت اجابته من حيرتنا، فكيف لشخص امريكي يعيش بين احضان الامريكان ان يتحدث اللغة العربية بطلاقة و متقن للهجة البدوية دون ان يرفع مفعولها وينصب فاعلها ويجر خبرها، هذا في حين نشرت السي ان ان الامريكية دراسة في 6سبتمبر/ايلول2010، مفادها ان اللغة العربية هي الاصعب على الاطلاق بالنسبة للأجانب. "يطول بعمرك" قالها بومتعب قبل ان يكشف عن سر تعلمه العربية، بأنه كان دائم الاحتكاك بالمبتعثين الخليجيين للدراسة بولاية تكساس، فكون صداقات قوية مع العرب؛ لذلك تعلم اللغة في اقل من عام واحد!. لم ينتهي شغفه بالثقافة الخليجية عند حدود اتقان لكنتها فحسب، حتى وجه مقدم البرامج بتلفزيون الريان جارالله المري دعوة لـ"بومتعب" ليستضيفه في قطر. فلم يفوت الفرصة وحضر بالفعل إلى الدوحة، لمخالطة أبناء الخليج وشرب الثقافة العربية من كفوف احفاد غواصي اللؤلؤ، منذ ذلك الوقت وهو يلبس الفروة ويخمر الشال رأسه، متحدثاً العربية بطلاقة اهلها. ويمضي بومتعب بالقول، ان السواد الاعظم من سكان الولايات المتحدة يسيؤون فهم العرب ولديهم شيئاً من التجنب يتخلله الخوف، فما زالت الصورة النمطية التي حبس العرب بين براويزها، تجعل منهم محط للحذر من ان يكون ارهابياً، او مجرد انسان لا يعلم عن الدنيا شيئاً سوى انواع الابل، وما خفي كان أعظمُ!. ويعترف بومتعب ان تلك الصورة تحطمت مع اول احتكاك مع اصدقائه المبتعثين، ويقول لم اجد شخصاً يحمل فكراً متطرفاً بينهم أو حتى قنبلة كما كنا نظن، بل على النقيض تماماً كانوا قمة في الوداعة والسلام، ومع مضي الايام اكتشفت ان ذلك نابع من تعاليم الاسلام. حينها تلاشت الصورة التي عززها الاعلام في اذهاننا حتى باتت كدق الوشم، يصعب محوها الا بالدم..صورة تعززت في حالة الحرب والسلم واللا حرب واللاسلم. كنت ارى النجاح بازغاً في اصدقائي العرب والخليجيين، بعد ان تفوقوا بخطوات واسعة بمجال الدراسة، حتى سبقوا كثيراً من ابناء بلدتنا، فمحوت الصورة الثانية بأن العرب مجرد جهلاء، بل بالعكس هم اهل قدرات واصحاب كفاءات وفراسة. فلا تسئ الظن بي فنحن ابناء العرب..ابناء سلم لا غضب، احفاد سينا والغزالي والفرابي وابن حرب، اسلمت وجهي للسلام فقال لي، اجنح لها، فصحت لبيك يا رب العجم والعرب. بالعودة لحديث بومتعب والذي قال ثمة قطيعة تكون مع العرب، وقد صدر بشأنهم حكم بالنبذ والاعدام، حتى قبل ان نراهم او تخاطب ألسنتنا ألسانتهم، فيتصدر الخوف والحذر مشهد العلاقة بيننا، فقط لاننا وضعنا لهم تعريفاً وقالباً محرم عليهم الخروج منه الى يوم الدين، بتلك العبارات وصف بومتعب الظلم الواقع على العرب بسبب احكام تصنيفية مسبقة صدرت بشأنهم. ترجم "بومتعب الامريكي" تعاطفه مع قضايا العرب من خلال حملته الدعائية للافراج عن حميدان التركي القابع بالسجون الامريكية منذ يونيو/حزيران2005، وطلب عبر مقطع فيديو من الرئيس الامريكي باراك اوباما صراحتاً ان ينحي الاسلاموفوبيا جانباً، ويلتزم بالقانون الامريكي، ولا يركن الى انطباعاته الشخصية. يذكر ان حميدان التركي العائل لـ(5) اطفال، ابدى حسن سلوكه وبياض سيرته، بعد ان قدم نموذج اخلاقي بديع بحسب ما ورد بحملة "بومتعب" الحقوقية، مما اجبر السلطات بولاية كولورادو تخفيف الحكم عليه من 28 سنة سجن إلى 8 سنوات. ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة حملته بإعادة حميدان التركي لاستكمال محاكمته في بلده الام –المملكة العربية السعودية- ان كان مداناً بالاساس. باعتبار نفسه مشاركاً في نظام الضرائب الامريكي، ولهذا السبب فإن امواله كمواطن امريكي تهدر لحماية ونقل ومحاكمة شخص لا يندرج تحت طائلة السلطات الامريكية، ومن الافضل للطرفين السعودي والامريكي اعادته لاراضيه. كان ذلك جزءً من حديثنا عن حقوق المظلومين والمستضعفين بالعالم ..ليس داخل تخوم الولايات المتحدة فحسب، حيث ان بومتعب استطاع ان يوظف شهرته في خدمة ومساعدة اصحاب القضايا الانسانية واستطاع ان يكون حلقة وصل بين المجتمعات الغربية والعرب. بعد ان قطع حديثنا عن الانسانيات وعاد مرة اخرى لوصلة الضحك، قال باسماً "ازيدك من الشعر بيت" انني استطيع الكتابة باللغة العربية. فهو لم يتعلم النطق وانهى امره، بل تعلم ايضاً الكتابة بالعربية، ولكن اتضح بعد التجربة انها تحتاج إلى بعض دروس التقوية. بومتعب ليس مجرد شخص اجاد اللكنة البدوية، بل هو انسان بالمعنى السامي للانسانية يغزو القلوب بابتسامته التي لا تنقص مع مرور العمر كماء زمزم، عاشق لاصالة ابناء البادية الكرام –على حد وصفه- الذين نشأوا على حب الخير وتقديمه للناس بغض النظر عن جنسهم.. لونهم.. او حتى لسانهم. فجأة...استل بومتعب سيفاً كان يخفيه تحت فروته وراح يرزف على انغام "شيخنا خيال العليا واسدنا تميم" معلناً انتهاء حديثنا، وبداية فصلاً جديداً اكثر دهشة!.