17 سبتمبر 2025

تسجيل

حرية التعبير ليست حرية التشهير

20 نوفمبر 2020

كنا نود لو أن قضية حرية التعبير في العالم وقع البت فيها والاتفاق عليها دون إرهاب وإزهاق أرواح بريئة، ودون الدخول في أزمة تنذر بصدام حضارات دموي كنا نفضل الكلمات على اللكمات والحوار على الخوار والانفراج على الانفجار. و ها هي اليوم منظمة الأمم المتحدة تنطق بما تراه الحق، حيث حذر الممثل الدولي السامي لتحالف الحضارات السيد (ميغيل أنخيل موراتينوس) من مغبة "إهانة الأديان والرموز الدينية المقدسة"، مؤكداً أن "حرية التعبير ينبغي أن تحترم بالكامل المعتقدات الدينية لجميع الأديان". جاء ذلك في بيان وزعه مكتب أمين عام الأمم المتحدة على الصحفيين بمقر المنظمة في نيويورك، بشأن تداعيات المواقف الفرنسية الأخيرة من الإسلام والمسلمين. وقال المتحدث باسم السيد موراتينوس في بيان أممي إن الممثل الأعلى "يتابع بعميق القلق التوتّرات المتصاعدة وحالات التعصب التي أثارها نشر الرسوم المسيئة لرسول الإسلام وأضاف أن "الرسوم الكاريكاتورية الاستفزازية أثارت أيضاً أعمال عنف ضد مدنيين أبرياء تعرّضوا لهجوم بسبب دينهم، أو معتقدهم أو عرقهم وشدّد موراتينوس في بيانه على أنّ "إهانة الأديان والرموز الدينية تسبّب الكراهية والتطرّف العنيف، ممّا يؤدّي إلى تفكك المجتمعات والنيل من السلم الاجتماعي، مع الإشارة إلى أنه خلال الأيام الماضية تصاعدت الانتقادات الموجهة إلى الرئيس (ماكرون) على خلفية تصريحاته بشأن حرية نشر "الرسوم المسيئة"، والذي ألقاه خلال مراسم تأبين أقيمت للمدرس (صامويل باتي) الذي قتل بقطع رأسه في 16 أكتوبر بيد إرهابي شيشاني روسي، لأنه عرض هذه الرسوم على تلامذته في المدرسة. وأثار دفاع ماكرون عن حقّ وسائل الإعلام في السخرية من الأديان احتجاجات غاضبة في العديد من دول العالم الإسلامي، حيث خرجت تظاهرات مندّدة بتصريحاته، كما أُطلقت حملة لمقاطعة السلع الفرنسية في عدد من الدول في حين تضامن مع الرئيس الفرنسي العديد من نظرائه الأوروبيين. ومعلوم أن منظمة تحالف الحضارات التابعة للأمم المتحدة تم إنشاؤها قبل 15 عاماً لتكون أداة قوية ناعمة تمنع الصراع بين الحضارات الذي أعلنه المفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون سنة 1992، وتركز جهودها من خلال تعزيز الحوار بين الثقافات والأديان وبناء جسور التفاهم بين الثقافات المختلفة، لكن "الإنسان ما أكفره" كما قال كتابنا العزيز! فقد أدرك المجتمع الفرنسي منذ أعوام ومعه العرب كافة بأن قضية الرسوم المسيئة -عبثا ومجانا- للرسول محمد صلى الله عليه وسلم جلبت ردود فعل إرهابية نندد بها طبعا، لكنها ما كانت لتقع لولا إصرار قلة من الرسامين ومجلتهم (شارلي هبدو) على كونهم على حق، وأن الموضوع كله يتعلق بممارسة حرية التعبير! بينما قننت فرنسا وهي دولة قانون مفهوم حرية التعبير ووضعت القوانين لهذه الحرية في شكل حدود واضحة لا يمكن لأحد تعديها؛ فمثلا يعاقب القانون الفرنسي كل من يهين المرأة بتهمة معاداة الجنس الآخر SEXISME، ويعاقب كل من يسيء للمثليين الجنسيين بتهمة العداء للمثلية HOMOPHOBIE، كما يعاقب القانون من يعتدي على أسود البشرة بتهمة العنصرية RACISME، ثم سنت فرنسا منذ عقدين قانونا سمي باسم صاحبه (غايسو) ليودع في السجن كل من يشكك حتى في عدد ضحايا المحرقة اليهودية (قضية ضد المفكر المسلم الفرنسي رجاء جارودي عام 1998 في محكمة باريس) والتهمة هي معاداة السامية ANTISEMITISME. نلاحظ أن حرية الإساءة للأديان ولرسول الإسلام خاصة ظلت هي الوحيدة التي تدخل تحت مبدأ حرية التعبير! بل إن السياسيين يحرضون على الزيادة من هذه الإساءات بدون رادع، و يعلنون أنهم مع "حرية التعبير" ما دامت تهين رسول الإسلام وهو الدين الثاني في فرنسا بعد الكاثوليكية، فلا جناح على المعتدين الأحرار! هنا تكمن خطيئة القيادة السياسية الفرنسية المتمثلة في تبني الإساءة لرسول الإسلام وهو ما يتناقض مع المعنى الحقيقي للدولة العلمانية التي تتمسك بالحياد، و تعلن الامتناع عن الانحياز أو العداء لأي من المعتقدات الدينية والحريات المسماة بحريات الضمير؛ فنشأت منذ 1905 دولة العلمانية وعدم الخلط بين الديني والدنيوي، أي بين شؤون المعتقد الروحي ومستحقات السياسة، والحكم وإدارة الدولة، واستمر العمل بهذه العقيدة العلمانية إلى حدود الثمانينيات حين بدأت فتيات مسلمات فرنسيا يتحجبن للذهاب إلى مدارسهن، كما تفعل المتدينات المسيحيات حين يضعن الصليب أو الشباب اليهودي المتدين حين يلبسون "الكيبا" على رؤوسهم، فتحرك اليمين المتعصب في فرنسا ضد الحجاب، وأجبر البرلمان على المصادقة على قانون سمي (قانون منع العلامات الواضحة للأديان). وخرجت مظاهرة كبرى في باريس يوم 22 أكتوبر 89 للاحتجاج على ما قرأته الجالية المسلمة كأنه عنصرية ضدها وضد دينها، و تراوحت المعركة الدستورية بين المتطرفين العنصريين الفرنسيين وأنصار حرية المعتقد، بما فيها الحجاب؛ وتعلل هؤلاء بأن السيدة مريم العذراء تظهر محجبة في جميع كنائس الغرب، وأن الأخوات الراهبات المسيحيات محجبات بشكل أكثر سترا و حياء من فتيات مسلمات! كاتب تونسي [email protected]