30 أكتوبر 2025

تسجيل

انتقام الكتابة!

20 نوفمبر 2014

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); في العالم كله نرى أبناء الجاليات، هؤلاء الذين تنتمي أصولهم إلى ثقافة ويعيشون هم في ظل ثقافة مختلفة، يقفون باستمرار على مفترق بين ثلاثة خيارات، أولها التعايش والتفاعل بين الثقافتين، وثانيها التخندق داخل ثقافة الأصول، وآخرها الانسحاق لصالح ثقافة المهجر وهو «اضطرار» مهما تظاهر أصحابه بأنه «خيار». أما البقاء عند مفرق التساؤل فهو، في كل الأحوال، مطلب عسير لا يمكن أن يستمر طويلاً. وفي لعبة الـ«ثلاث ورقات» حين يضع المقامر كل ما يملك على ورقة واحدة، فإن هذا يعني ثقته الكاملة في أنه اختار الورقة الرابحة، كما يعني صعوبة تراجعه أو مصارحته لنفسه بأنه راهن رهاناً خاسراً. وقد رأينا «مونيكا علي» ـ البريطانية من أصل بنغالي ـ تراهن في روايتها الأولى «بريك لين» على ورقة المهجر، وتنحاز في الرواية ـ الصادرة في 2003 ـ إلى خيار الانسحاق بقوة من يخشى أن يرتد إلى أصوله مرة أخرى! كانت تبدو مطمئنة تماماً، واثقة كل الثقة في خيارها، وأقول «تبدو» لأن الحقيقة لها وجه آخر موجود في العمق وإن كان غير بادٍ، والكتابة لها حيلها الواسعة التي تظهر المخبوء وتكشف المستور، للكتابة فخاخ وقعت «مونيكا» في قبضة أحدها وهي تخوض مغامرة روايتها الثانية «سماء ألينتجو»، ففيها يكتشف القارئ، وربما لا تكتشف الكاتبة، أنها مازالت مشغولة بسؤال الهوية، وأنها لم تعد مطمئنة تماماً إلى خيار الانسحاق، صحيح أنها لم تغير وجهتها، لكنها تبدو وكأنها عادت لتقف على مفرق التساؤل، في انتظار ما تسفر عنه الأيام، وما تدفع الحيرة إلى اتخاذه من خيارات.موضوع الرواية يبدو بعيداً جداً عن سؤال الهوية، فلا لندن، ولا «بريك لين» ولا جالية بنغالية، بل قرية برتغالية ـ هي «ماما روزا» تقع في منطقة ألينتجو، وتعيش على إنتاج «الفلين» الذي تنهار أسعاره، كأن القرية يمكن أن تحتمل مزيداً من الفقر، وكأن أهلها لا يكفيهم ما بأرواحهم من ندوب خلفها نظام الديكتاتور «سالازار»، الذي رحل لكنه لم يأخذ معه أشباح الخوف وفوارات الألم.قرية لا يحفل سكانها كثيراً بالسياح، لكن نقاشاتهم تكشف مدى حيويتهم وقدرتهم على التواصل الإنساني، يتكلمون عن المهاجرين المارين ببلدتهم ـ التي تقع في أكثر أقاليم الاتحاد الأوروبي فقراً ـ في طريقهم إلى الشمال الغني، وعن حلمهم هم أيضاً بالوصول إلى ذلك الشمال، إنه الحلم الذي يسلب القرية شبابها بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا يترك لها إلا المسنين بخطاهم الثقيلة المترنحة وهم يهربون من الشمس إلى ظل الأشجار، أو يقصدون المقهى.«ماما روزا» تملك بالضبط ما تشعر الجالية البنغالية التي تقطن حي «بريك لين» في لندن بأنها تفتقده، فهي شجرة لا يسعى ساقها إلى التخلص من جذورها، لا يعاني سكانها ازدواج الهوية، حتى «فاسكو» صاحب المقهى الذي يفاخر دائماً بأنه أول من خرج عن المألوف من أبناء القرية، حين عبر المحيط إلى أمريكا ليعمل في تقشير الخضراوات، لا يجد إلا شمس قريته يجفف تحتها روحه المبتلة بخيبة الأمل، مفتتحاً المقهى للثرثرة، والعزاء في أسعار الفلين، وذكريات سرقة الفاكهة من بساتين القرية في زمن الطفولة!في «سماء ألينتجو» اكتشفت «مونيكا علي» أن هناك ألواناً أخرى متاحة غير الأبيض والأسود، وأن الكون يتسع لثقافات متعددة يمكن ـ جداً ـ أن تتجاور وتتقاطع وتتفاعل، ولمست ما بين ثقافة الأجداد ـ أجدادها ـ وثقافة «ماما روزا» اللاتينية من وشائج، لتتحرر إلى حد ما من صرامة البناء التقليدي الذي جعل روايتها الأولى أقرب إلى روايات القرن التاسع عشر، وتومئ إلى «الواقعية السحرية» بإشارات، منها العجوز التي ضربت صبيا علي رأسه ليفقد القدرة علي تحدث اللغة البرتغالية ويتحدث الإسبانية عوضاً عنها، و«ستانتون» الذي يشعر بالسمك يحدق فيه وهو يأكله.ومع أنها مصابة بـ«النظرة السياحية» فإن «سماء ألينتجو» خطوة إلى الأمام تتجاوز انسحاق «بريك لين» وتعبر عن صراع داخلي إنساني ونبيل، يحاول أن يجد مرآة ليتبدى عليها، حتى لو كانت هذه المرآة قرية فقيرة بعيدة عن الديار، وأكثر من هذا: إنها انتقام الكتابة وتمردها على أي وعي زائف مهما بدا مستقراً ونهائياً!