11 سبتمبر 2025
تسجيللا أكاد أذكر كيف كان يومي قبل سنوات ليست بالبعيدة عندما لم أكن أتعامل مع الآخرين بالانترنت، ولم تكن الهواتف المتحركة قيد التداول، وكان التقاط قنوات التلفزة القليلة المتاحة يتطلب تحريك الهوائي (الإيريال) يمنة ويسرة، وكنا نصف مواقع بيوتنا لمن يرغبون في زيارتنا بأسلوب: تدخل شارع كذا يمين من شارع كذا ثم وتمشي سيدا حتى تصل الى بقالة الشروق. تخليها يسارك وتدخل الشارع الضيق وبيتنا رقم خمسة على يمينك (طبعا كان هذا قبل اختراع تطبيق تحديد المواقع في الهواتف بمسمى لوكيشن). ولكنني أتمنى أحيانا لو ان التقدم التكنولوجي الذي أدى ويؤدي طوفان من المخترعات يتوقف لبعض الوقت، فالمخترعات الحديثة تجردنا شيئا فشيئا من الكثير من الممارسات والقيم الحميدة، بل وتجرد حياة البشر من "الطابع الإنساني"،. خذ مثلا ما فعله بنا التلفزيون والانترنت والهاتف الجوال، تجلس عائلة بأكملها امام شاشات التلفزيون لنحو ساعتين مثلا ويكون كل الكلام المتبادل بينهما تلغرافات من نوع: بعدين.. هس...لا يا حمار! بات فن الكلام مهددا بالاندثار، ثم جاءت الهواتف الذكية ودقّت إسفينا في جسم التواصل الإنساني، ولن أنسى ما حييت دعوة للعشاء في بيت صديق مصري زرته لأول مرة في منطقة الدقي في القاهرة، وكان الحضور نحو عشرة أشخاص وكانت تلك أول مرة التقي فيها بمعظمهم، وكانت هناك مباراة بين ناديي الأهلي والاسماعيلي. ومن بين الأشخاص العشرة لم يكلف نحو خمسة منهم حتى مجرد عناء إلقاء التحية علي أو الرد على تحيتي، وكانت عيون الجميع مسمرة على الشاشة، وكان كل واحد منهم يكلم نفسه: إيه دا يا غبي... فاول يا حكم يا أهبل.. المدافع الغبي سايب الجناح الأيمن يسرح على كيفه... مش حنقبل اقل من 3 أهداف نظيفة! (هل الأهداف الثلاثة تصبح ملوثة إذا أحرز الفريق الآخر هدفا او اثنين؟) وانتهت المباراة ولا أذكر من نتيجتها سوى المعركة الكلامية التي دارت بين الحضور، وابو الجعافر جالس مثل الطرطور، مجرد شاهد ما شافش حاجة، وحتى بعد أن جلسنا حول مائدة الطعام امسك أحدهم بليمونة ليشرح كيف أضاع لاعب هدفا "مضمونا"، ولم يحس أحد بوجودي إلا بعد ان استأذنت منصرفا فتعالى الصياح: ما يصحش يا ابو الجعافر.. يا دوب الونسة ح تحلو!! فقلت لهم: إن شاء الله نتآنس لما الأهلي او الإسماعيلي يهزم برشلونه!!. ومع هذا فلا عتاب ولا ملامة، لأن العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة أيضا صارت تلغرافية.. هذا مشغول بالتلفزيون وتلك تتلاعب بأزرار الهاتف الجوال وكأنها تبحث عن الزعيم الجديد لتنظيم داعش، الذين قال الامريكان ان من يدل عليه سيحصل على 10 ملايين دولار، في زمن صار فيه اصطياد ابناء آدم أكثر عائدا ماديا من صيد الفيلة والنمور! وهناك الانترنت الذي حل محلي في البيت!! ففيما مضى كنت المستشار الأكاديمي والسياسي والاجتماعي والصحي لعيالي، أما اليوم فقد اكتشفوا ضحالة معلوماتي مقارنة بغوغل وويكيبيديا ومكتبات أمازون. وياما جاهدت كي اغرس في عيالي حب القراءة وشجعتهم على ارتياد المكتبات، وساعدتهم في اختيار الكتب والمجلات، ولكن كل ذلك فعل ماض ناقص، وكلما عاتبتهم على عدم القراءة قالوا: ما عندنا وقت!! والساعات التي تقضونها امام التلفزيون والانترنت "وقت" أم "مساحة"؟ تقترح عليهم تناول وجبة ما في موعدها فيقول لك احدهم انه لن يأكل حتى يفرغ من مشاهدة برنامج تلفزيوني معين، ويقول الآخر: معي طارق على الخط في المسنجر أو الواتساب أو تلغرام.. أعطوني سندويتش! والجوال أصلا هاتف ووظيفته هي ان يكون اداة تهاتف أو مهاتفة أي كلام، ولكنه صار أداة لقتل الكلام.. زوجتك ليس لديها الوقت لإلقاء التحية عليك ثم طلب ما تريد، ومن ثم فإنها ترسل اليك رسالة قصيرة: احضر معك الفين كاش.. وبعشرة قروش خس!! وحتى قبل سنوات كنا نقتل الوقت خلال ساعات العمل بزيارة بعضنا البعض لممارسة الحش والنميمة في المدير ورئيس القسم، ولكننا صرنا نمارس تلك الأشياء بالبريد الالكتروني والواتساب، وصرنا نقتل الوقت بممارسة اللعب على الكمبيوتر! وفي بريطانيا اصدرت مؤسسة تسمى "آي كان" وتعني "أستطيع" ان الكثير من الصغار باتوا عاجزين عن التعبير عن أنفسهم، لأن الكبار من حولهم ساهون ولاهون، ولا يبادلونهم الحديث، بل ويشجعونهم على العبث بالأجهزة الالكترونية التي حلت محل الأصدقاء والأقارب. [email protected]