15 سبتمبر 2025

تسجيل

ثورة يوليو تعيد الاعتبار لعروبة مصر

20 يوليو 2015

كانت عروبة مصر قبل ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952 - والتي سنحتفل بذكراها الثالثة والستين يوم الخميس المقبل - واضحة المعالم، وهو ما تجلى في احتضانها الجامعة العربية في العام 1945 ثم استضافتها لأول قمة عربية في مدينة أنشاص في العام 1946 ومشاركتها في الدفاع عن فلسطين ضد الهجمة الصهيونية في 1948، مع مجموعة من الدول العربية الأخرى، وإن كانت للأسف، لم تحقق أهدافها بسبب أخطاء عدة، في مقدمتها عدم الاستعداد للدخول في الحرب، وتسليح الجيش المصري بأسلحة فاسدة وغير ذلك من أسباب لا مجال للخوض فيها.غير أن هذا العروبة لم تكن محملة بالزخم الذي يجعلها عنوانا حقيقيا لانتماء القُطر المصري، أكثر من كونها إطارا يجمعه مع عدد من الأقطار الأخرى، فجاءت ثورة الثالث والعشرين من يوليو بقيادة مفجرها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر لتعيد الاعتبار لعروبة مصر، وتعلي من قيمتها الإستراتيجية وترفع سقفها إلى حد بدت أنها أشبه بالسياق الأيديولوجي، الذي يرتكز على القومية العربية التي شهدت في ظل تبني الثورة لها، حالة غير مسبوقة من التوهج، سواء في الشكل أو في المحتوى، ليس في مصر فحسب، وإنما في المنطقة العربية.وأخذت العروبة منحى متجذرا في التوجهات السياسية للدولة المصرية في زمن يوليو، لاسيَّما في فترة حكم عبد الناصر التي امتدت عمليا من 1954 إلى الثامن والعشرين من سبتمبر 1928 موعد رحيله المفاجئ عن دنيانا، ففضلا عن النصوص التي احتوى عليها الدستور المصري الذي انبثق في العام 1954 وأكد في نص صريح وواضح أن مصر جزء من الأمة العربية، وهو تعبير لم يكن مألوفا في أدبيات تلك الفترة، حدد كتاب فلسفة الثورة (والذي وضع أفكاره ومحدداته عبد الناصر نفسه وصاغه محمد حسنين هيكل، الكاتب الذي كان الأكثر قدرة عن التعبير عن توجهات وأشواق وطموحات الثورة وزعيمها) الدائرة العربية، ضمن أهم مجالات السياسة الخارجية لمصر، والتي على الرغم من أنها كانت المحدد الثاني بعد الدائرة الإفريقية، إلا أنها كانت الدائرة الأكثر حركية وديناميكية وتفاعلا واحتواء، لتوجهات عبد الناصر وارتبطت عمليا بمشروعه القومي في المنطقة، والذي غدا من أهم المشروعات الفكرية والسياسية، وله ظلاله وامتداداته الإقليمية التي تخطت الشرق الأوسط إلى القارة الإفريقية وآسيا وأمريكا اللاتينية.ولم تقف عروبة مصر عند حد كونها محددا سياسيا وفكريا لحركة نظام ثورة يوليو فحسب، ولكنها تبلورت في خطوات وإجراءات عملية، بدأت مبكرا بعد رسوخ الثورة في المشهد الداخلي، شكلت القضية الفلسطينية رأس حربتها - إن جاز القول – وبالذات عقب اعتداء إسرائيلي سافر في العام 1954 على قطاع غزة، والذي كان ضمن الإدارة المصرية، عندئذ أدرك عبد الناصر أهمية التعاطي مع التهديد الذي تمثله دولة الكيان الصهيوني، سواء على مصر أو على المنطقة العربية، فسعى إلى إنجاز صفقة الأسلحة التشيكية التي كانت مدخلا لعلاقات قوية ووثيقة وراسخة مع الاتحاد السوفيتي، القوة الموازية لقوة الولايات المتحدة في ذلك الزمان ومن جراء ذلك تعرضت مصر لعدوان 1956، ثم لعدوان 1967، وانطلقت مصر في الدفاع عن أمنها الوطني الذي كانت تربطه على الدوام بالأمن القومي العربي، وهو ما تحقق في أعلى درجاته في حرب أكتوبر 1973 عبر الشراكة بين الجيشين المصري والسوري، والتى انضمت إليها جيوش عربية أخرى من دول عدة في مقدمتها الكويت والسودان والعراق والجزائر والمغرب، فضلا عن الأدوار المهمة التي لعبتها كل من السعودية والإمارات على صعيد توظيف سلاح النفط ، وكل ذلك حاصل المكون الأساسي الذي صاغته ثورة يوليو في المنطقة العربية منذ عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.هذا هو الملمح الأول، أما الملمح الثاني، فيتمثل في عملية الإسناد واسعة النطاق، سياسيا وعسكريا ولوجستيا، التي قدمتها ثورة يوليو لحركات التحرر العربي وعلى رأسها ثورة الجزائر في خمسينيات القرن الفائت، والتي نتجت عنها هزيمة واحدة من أهم القوى الاستعمارية في ذلك الوقت وهي فرنسا، مما شكل ذريعة لدى النخبة الحاكمة في باريس للمشاركة بغباء في العدوان الثلاثي على مصر في 1956 والذي دفعت، مع المملكة المتحدة، ثمنه انتقاصا من نفوذهما في الإقليم ودورهما كإمبراطوريتين استعماريتين، فضلا عن الوقوف إلى جانب الثورة اليمنية التي اندلعت في سبتمبر 1962 والتي انتهت بالانتصار على القوى المناوئة لها، ورغم الكلفة الباهظة لذلك، إلى جانب انتقادات حادة من قبل دوائر عدة، فإن هذا الوقوف هو الذي أتاح للقوات المصرية أن تفرض الحصار على باب المندب في حرب أكتوبر 1973، الذي منع التحرك البحري لإسرائيل عبر البحر الأحمر وهو ما كان له تأثيره الإستراتيجي في تحقيق الانتصار، بالإضافة إلى كونه أسهم في تحرير شعب عربي من حكم الإمامة الذي كان مضفرا بسمات التخلف، بكل معاييره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فضلا عن كونه حضاريا.ولا يمكن في هذه العجالة، تجنب الإشارة إلى الدور الذي لعبته ثورة يوليو في تفجير الطاقات الاستقلالية لدى منطقة الخليج، والتي كانت محتلة من قبل بريطانيا العظمى، بل إن هزيمتها -على الأقل سياسيا - في العدوان الثلاثي، وإجبار قواتها إلى جانب قوات فرنسا وإسرائيل على الانسحاب، سواء بفعل الإنذار السوفيتي الذي اتسم بالجدية، أو عبر ضغوط الولايات المتحدة التي كانت تستعد لوراثة الدور الإمبريالي لكل من لندن وباريس في المنطقة، شكل واحدا من أهم أسباب اضطرار القوات البريطانية إلى مغادرة منطقة الخليج واستقلال أغلب دولها في مطلع ستينيات، ثم سبعينيات القرن الفائت، واستتبع ذلك حركة مصرية نشطة وقوية ومتحمسة للمساهمة في بناء قدرات دول الخليج الناشئة، عبر الدفع بأعداد هائلة من المعلمين والأطباء والخبراء والإعلاميين، بالإضافة إلى عناصر القوة الناعمة من مواد ثقافية ومنتجات فنية وإعلامية، مما أتاح لها رفد بنيتها التحتية بمقومات قوة أسهمت في انطلاقتها تاليا، بعد توظيفها لوفورات الثروة النفطية التي شهدت تفعيلا لتأثيراتها ونموها عقب حرب أكتوبر 1973. الملمح الثالث يتجلى في بلوغ المشروع القومي لثورة يوليو ذروته، من خلال السعي إلى بناء أول نسق وحدوي في التاريخ المعاصر، فقد تعرضت المنطقة العربية إلى مؤامرة التقسيم الناجمة عن تفاهم القوتين الإمبرياليتين بريطانيا وفرنسا، فيما سمى باتفاقية سايكس بيكو في العام 1916 مدعومتين من الإمبراطورية الروسية ، والتي أسفرت عن الحدود الراهنة في المنطقة العربية، وظل حلم الوحدة العربية منزويا في خانة الأشواق الكبرى، وحتى عندما كان يتوهج لفترة مثلما حدث في الثورة العربية الكبرى، فإنه سرعان ما كان يجهض، ولكن عبد الناصر أيقظ الحلم وفتح الطريق للأشواق لتحقق في أرض الواقع، متجليا في الوحدة المصرية السورية التي استمرت زهاء ثلاث سنوات من 1958 وحتى 1961، ولأنها كانت تناهض التوجهات الإمبريالية بما في ذلك الولايات المتحدة القوة الصاعدة، فضلا عن تعارضها مع مصالح أطراف إقليمية رأت فيها خطرا على وجودها، فقد تعرضت للإجهاض المبكر والحرب العلنية، ومع ذلك ظل هذا الحلم واحدا من أهم الأحلام القومية لعبد الناصر، ليس سعيا لبناء إمبراطورية تعلي من نفوذه في المنطقة العربية وفق ما حاولت دوائر – وما زالت - أن تردده، وإنما لبناء قوة عربية قادرة على الوقوف في وجه المخاطر المحدقة بالأمة، وفي مقدمتها تمدد الكيان الصهيوني والذي كان، ومازال بالطبع، المهدد الرئيسي للأمن القومي العربي، حتى رغم بروز مخاطر أخرى يجسدها نشوء وتصاعد التنظيمات الإرهابية والمتطرفة وبروز أطراف إقليمية تسعى إلى فرض مشاريعها على المنطقة، إلى جانب ما نراه واضحا من مخاطر راهنة في مقدمتها الحروب الأهلية والصراعات الطائفية والمذهبية التي باتت عنوانا للمرحلة.إن المطلوب بعد كل هذه الأعوام من المشروع القومي العربي الحضاري لثورة يوليو، إعادة قراءته مجددا من قبل النخب الفكرية والسياسية المخلصة له لتصويب مساراته من أخطاء وقع فيها بالضرورة، ووضع محددات جديدة تحكم حركته باتجاه يدفع بها إلى صدارة المشهد العربي، حتى يمكن التعامل بفعالية مع المهددات المحيطة بالعروبة ذاتها، والتي توشك أن تقذف بها إلى دائرة الذبول لمصلحة مشروعات أخرى، تقوم على التطرف والإقصاء والتهميش وفتح أبواب المنطقة أمام التدخل الخارجي الذي حاربته ثورة يوليو بكل قوة وكفاءة.