15 سبتمبر 2025

تسجيل

فضيلة الصدق (4)

20 يوليو 2014

من مظاهر الصدق في الأفعال، عند معاملة الناس، الصدق في الوعد، والوفاء به، فالمؤمن صحيح الإيمان، إذا وعد وفىَّ وأنجز، والمنافق المبتلى بشيءٍ من النفاق، إذا وعد كذب وأخلف، كما أن الوفاء بالوعد، دليلٌ على شرف النفس وكرامتها ورفعتها، إذ إن الحر الشريف السريّ، لا يدنس عرضه، بإخلاف الوعد، أو بغيره من الخلال الوضيعة الدنيئة، التي لا تشي إلا بالنفاق، ولا تنم إلا عن لؤم الطباع، وإنما كلمته إذا وعد، تكون كحد الحسام، الذي لا يعرف إلا البتّ، قال الشاعر:إذا قلتَ في شيءٍ (نعم) فأتمَّهُ فإنّ (نعم) دينٌ على الحر واجبُوإلا فقل (لا) تَسترحْ وتُرِحْ بها لئلاّ يقولَ الناسُ إنك كاذبُوقد كان هذا هو خلق سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام، خير من أوفى بالوعد، وخير من قال في أمرٍ نعم، ومن الأمثلة على ذلك، ما رواه الترمذي، عن عبدالله بن الحمساء، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيعٍ قبل أن يبعث، فبقيت له بقيةٌ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثةٍ، فجئتُ فإذا هو في مكانه، فقال:(يا فتى لقد شققت عليّ، أن ههنا منذ ثلاثٍ أنتظرك)، أي كان عليه الصلاة والسلام يحضر في نفس الموعد والمكان، مدة ثلاثة أيام! وانظر قوله، وما فيه من أدبٍ جمّ، وحلمٍ تام، وعطفٍ ولين، إنه لم يؤنبّه ويُنحِ عليه باللوم، بل اكتفى بالعتاب الرقيق، في قوله:(لقد شققت عليّ).هذا هو خلق الكرام النبلاء، وهذه هي شيم الرجال الشرفاء، حتى قبل الإسلام، قال الشاعر المتقِّب العبديّ، وهو من العصر الجاهليّ:لا تقولنَّ إذا ما لم تُرِدْ أن تُتم الوعدَ في شيءٍ: نعمْفإذا قلت: نعم فاصبر لها بنجاحِ الوعدِ إنّ الخُلْفَ ذمْإنّ (لا) بعد (نعم) فاحشةٌ فبـ (لا) ابدأْ إذا خِفتَ الندمْولقد بلغ ضعف الدين، وفساد الذمة، واتّضاع النفس، في بعض الناس في هذا الزمان، أنه إذا لم يرد أحدهم إنجاز الوعد في شيءٍ ما، لا أن يقول: نعم، على حد وصف الشاعر، بل يقول: إن شاء الله، وهو في نفسه عازمٌ عزيمةً قاطعة على عدم الوفاء، وهذا القول، أشد وأعظم حرمة، من أي قول آخر، إذ في هذا الفعل فضلاً عن الكذب، وإخلاف الوعد، استهانة القائل بلفظ الجلالة، واستعماله بقصدٍ فاسد، ونيةٍ سيئة، بما يوحي للموعود خلاف ذلك، فيكون مَدْرجةً للخُلف والزيف، باسم الله سبحانه وتعالى، وليحذروا قوله:(يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون. كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).نذكر في الختام، قصة تحمل لنا روايتها، بأحداثها وخواتيمها، كل العظة والعبرة، بما في الصدق من نفعٍ وخيرة ونجاة، في الدنيا والآخرة، مصداقاً لقول المولى عز وجل:(ليجزي الصادقين بصدقهم)، وقوله أيضاً:(قال اللهُ هذا يومُ ينفعُ الصادقين صِدقُهُم)، وهي:ما حكاه الشيخ عبدالقادر الجيلاني (470- 561 هـ)، رحمه الله، فإنه قال: بَنَيتُ أمري على الصدق، وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم- كان شاباً حَدَث السن- فأعطَتني أمي أربعين ديناراً، وعاهدتني على الصدق، ولمّا وصلنا أرض (هَمْدان)، خرج علينا عرب، فأخذوا القافلة، فمرَّ واحدٌ منهم وقال: ما معك؟ قلت: أربعون ديناراً، فظنّ أني أهزأ به، فتركني، فرآني آخر فقال: ما معك؟ فأخبرته، فأخذني إلى أميرهم، فسألني فأخبرته، فقال: ما حملك على الصدق؟ قلت: عاهدتني أمي على الصدق، فأخاف أن أخون عهدها، فصاح باكياً أمير قطاع الطريق، وقال: أنت تخاف أن تخونَ عهد أمك، وأنا لا أخاف أن أخون عهد الله!! ثم أمر بردّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائب لله على يديك، فقال من معه: أنت كبيرنا في قطع الطريق، وأنت اليوم كبيرنا في التوبة، فتابوا جميعاً، بسبب فضل الصدق وبركته!اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا وأفعالنا، على كل أحوالنا، حتى يستوي سرّنا وعلانيتنا، واحشرنا مع عبادك الصادقين الأبرار، اللهم آمين.