18 سبتمبر 2025

تسجيل

الغربة في الوطن.. منفى

20 يونيو 2012

في إحدى قصائده الرائعة، يخاطب الشاعر الألماني الكبير برتولت بريشت كل إنسان أجبرته الظروف أن يغادر أرض وطنه، ليبحث عن أرض بديلة لفترات قد تطول أو تقصر، ويحس قاريء هذه القصيدة أن فيها أملا شاحبا، لكنه ليس غائبا . يقول بريشت للإنسان المنفي : لا تدق مسمارا في حائط – ألق سترتك على الكرسي – لماذا تحمل هم أيام أربعة؟ - غا ستعود إلى وطنك – اسحب قبعتك على وجهك حين يمر بك الناس – ما الداعي لأن تقلب في قواعد لغة أجنبية؟ - النبأ الذي يدعوك إلى الوطن مكتوب بلغة تعرفها ... هذا الذي قاله بريشت قاله في أجواء الحرب العالمية الثانية، التي شردت ملايين الأوروبيين، ودفعتهم للبحث عن ملاذات آمنة في المنافي، بعيدا عن أوطانهم، وإذا كانت الحياة في أوروبا قد استقرت ثم ازدهرت بعد تلك الحرب، فإن ملايين من الأفارقة والآسيوين، وفيهم عرب ومسلمون، قد اضطروا بدورهم لأن يهجروا أوطانهم التي فقدوا فيها نعمة الإحساس بالكرامة، ولم يعد يتوفر لهم العيش الكريم اللائق بالإنسان، ومعظم هؤلاء يحاولون التوجه بوسائل غير شرعية إلى الدول الأوروبية، وحين نتحدث عن المهاجرين المنفيين العرب وحدهم، نجد أن منهم كتابا وشعراء وفنانين، وعلى هؤلاء جميعا ألا يستمعوا بالطبع إلى نصيحة بريشت ذات الأمل الشاحب: ما الداعي لأن تقلب في قواعد لغة أجنبية ؟ فهؤلاء يدركون أن ما دفعهم لتذوق المر في بلاد الآخرين أنهم كانوا قد تذوقوا في أوطانهم ما هو أكثر إيلاما ومرارة . كنت قد كتبت عن الكاتبة المغربية زكية خيرهم التي هجرت وطنها طواعية واختيارا، أو هاجرت منه اضطرارا، وفي الحالتين فإنها أصبحت إنسانة مغتربة في الغرب، وبالتحديد في النرويج، وهكذا قدر لها أو شاءت لنفسها أن تبتعد عن الشمس الدافئة المدفئة، لكي تواجه ثلوج القطب الشمالي ! وبعد أن كتبت ما كتبت، سعدت بقراءة كتاب صدر عن اتحاد كتاب المغرب، وهو بعنوان الهجرة والإبداع، ويشتمل على دراسات وانطباعات وشهادات عدد من الكتاب المغاربة ممن هاجروا بعيدا عن الوطن لكنهم – على ما يبدو – لم يستطيعوا أن يقطعوا الجذور التي تربطهم بتراب هذا الوطن، ومن هؤلاء هشام العلوي وطه عدنان وبشير الغمري وحفصة العمراني وزكية خيرهم التي كنت قد كتبت عنها، أما هي نفسها فقد اختارت لشهادتها عنوانا مؤلما أو صادما، لكنه يلخص الأمر كله : منفى يشبه الوطن! وتقول في هذه الشهادة : في الوطن النائي – النرويج – أتيحت لي فرصة أن أكتب بحرية، وأن أعبر عما كنت أتمنى أن أقوله وأنا بين أهلي، وفي تقديري أن هذا الذي قالته زكية خيرهم يؤكد ما نردده بين حين وآخر : الغربة في الوطن منفى !