13 سبتمبر 2025

تسجيل

الشعوب تحكم بالعدل لا بالسوط

20 مايو 2015

يعيش العرب و خاصة منهم الذين يعانون من الصراعات الأهلية في العراق و سوريا واليمن و ليبيا حالة من افتقاد البصيرة كأنما أصابتهم لعنة التيه بدون بوصلة وهم يتحركون على حقول ألغام. و أضف إليهم العرب الذين مروا بتجربة الربيع المجهض وتغيير المنكر مثل مصر وتونس بعد أن انتفض شعباهما ضد استبداد رجل واحد تحيط به أسرة نهمة و شلة مستغلين، فهما أيضا تعانيان مظاهر العنف لأنهما لم تجدا أجوبة صحيحة لمعضلات حقيقية. و أعتقد أن العالم العربي أحوج ما يكون إلى خارطة طريق راشدة سبق أن سماها الوزير المصلح خير الدين باشا (أقْوم المسالك) و قد أدركت شخصيا عند التصاقي ثلاث مرات بشؤون السياسة (سامحني الله) أن النخبة العربية تخطىء تشخيص أمراض العرب و من الطبيعي أن تخطىء توصيف العلاج. إن أبرز سؤال يطرح اليوم على الضمائر العربية هو :" أين تكمن أسباب الإرهاب؟" ومن ثم "كيف نقضي على الإرهاب؟" و هنا نجد الخطأ في التشخيص و الخطأ في توصيف العلاج. ففي مصر كما في تونس تنشط تيارات الرِّدة ومحاولات إعادة إنتاج الاستبداد و التفنن في إلباسه لبوس الديمقراطية و الليبرالية فزينوا الدساتير بشعارات حقوق الإنسان و حرية الضمير و المساواة بين المواطنين حتى ظهرت الدساتير العربية الجديدة أرفع شأنا و أوفر ضمانات من دساتير سويسرا والسويد و النرويج لكن فوجئت هذه النخب بأن المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية لم تجد حلولا و أن الظلم زاد عن ذي قبل و أن الشباب المهمش ازداد تهميشا و أن الغرب الذي حاولت نخبنا العلمانية المدعية الحداثية إرضاءه و استجداء عونه لم يعط لهذه النخب التابعة سوى الكلمات المعسولة و الوعود المنوِّمة فالمعونات المالية شحيحة و القروض مجحفة ولم يسمع الماسكون الجدد بزمام أمورنا من أفواه حكام الغرب و من منظماته الدولية إلا المواويل المهدئة في حين تفاقم العنف في الشوارع و امتدت الإضرابات و تكاثرت الاعتصامات و انعكست حالات انعدام الأمن على القطاع السياحي فجفت ينابيع العملة الصعبة و تنادت أصوات الغربان الجهولة بأن الإرهاب يقاوَم بالسوط و طالبوا بقمع الحريات والعودة للترهيب للقضاء على الإرهاب !. و الحقيقة التي تغافل عنها هؤلاء هي أن الإرهاب وليد الاستبداد و أن العنف ابن شرعي للقهر فكيف نداوي بالتي كانت هي الداء؟ و أتذكر يوما جمعتني صدفة سعيدة بالمستشار الألماني الأسبق (جيرهارد شرويدر) بعد مغادرته السلطة فسألته كيف قضت الحكومة الألمانية على إرهاب (بادر ماينهوف) المسلح الذي قتل الناس و فجر المرافق العامة في ألمانيا في السبعينات ؟ هل ألغت الحكومة الدستور؟ وهل تراجعت عن الديمقراطية ؟ فقال لي المستشار مستنكرا :" لا أبدا بل كنا نؤمن أن الإرهاب ولد من رحم خلل في الديمقراطية و أزمة في مدونة الحريات العامة و إفلاس في برامج التربية و التعليم و فوضى في توزيع خيرات البلاد فبادرنا إلى إصلاحات هيكيلية كبرى و دعمنا المسارات الديمقراطية و طورنا أداء الآليات الديمقراطية و قاومنا مظاهر الفساد فقضينا على الإرهاب بالمزيد من الحريات". هكذا قاوم الألمان الإرهاب! بالعدل لا بالسوط فنجحوا و فشلنا. حين هاج بعض الناس و ماجوا في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز قال له بعض ولاته إن الناس تمردوا و اضطربت أحوال الأمة و لا يقومهم إلا السوط ، فقال عمر كذبتم و أخطأتم بل لا يقومهم إلا العدل. عادت إلى ذاكرتي هذه الحكمة الإسلامية وأنا أتابع مداولات المجلس التشريعي التونسي هذه الأيام حول قانون المجلس الأعلى للقضاء وهي هيئة دستورية ينص عليها دستور ما بعد الثورة غايتها الطبيعية أن تجسد استقلال القضاء كسلطة من السلطات الثلاث لا تستقيم الديمقراطية ولا تصان الحريات إلا متى نجحت بلادنا و أي بلاد سواها في التفريق بين السلطات (التنفيذية و التشريعية والقضائية) كصمام أمان أساسي ضد الظلم و القهر و الاستبداد و ضد السلب والنهب والفساد. و كنا دائما في سنوات الجمر التونسية نقول و نعتقد أن القضاء في بلادنا هو بيت الداء و قد سن الزعيم بورقيبة (كما سن زعماء العرب من جيل المؤسسين جميعا بلا استثناء) تقاليد استعمال جهاز القضاء للقضاء على الخصوم و أصبحت المؤسسات القضائية في أغلب دواليبها ذراعا رهيبة يستعملها الرئيس (وهو ملك بلا تاج) لإسكات المعارضين وإذلال المخالفين و بخاصة في الأنظمة التي جاءت مباشرة بعد استقلال الشعوب العربية فأطاحت بأنظمة ملكية تقليدية و أعلنت أن عهد (الجمهوريات) أزف فافرح يا شعب و هلِّل وزغردن يا نساء فقد انقضى عهد الملك وجاء عهدك يا مواطن لتختار عبر صندوق الاقتراع من يحكمك بكل حرية وبكل شفافية !!!! و نُفِي الملك المصري إلى إيطاليا بعد أن كان عهده أرفق و أرحم (البرلمان المصري رفض للملك فاروق إصلاح المحروسة يخت العائلة و رفض منح الملك تسبقة عن جرايته سنة 49 و كانت كتلة الوفد بزعامة فؤاد سراج الدين تسن القوانين الديمقراطية و تحد من سلطات الملك !) و في تونس تمت إهانة آخر ملوك تونس بالمحاكمات الكيدية و في العراق قتل الملك فيصل هو و أفراد أسرته سنة 1958 وكذلك شأن بقية ملوك العرب ليكتشف الناس بعد عقود أن عهدهم كان أرحم و أفضل وأكثر صونا للدين و حماية للدنيا من عهود من خلعوهم و ورثوهم و قادوا الأمة إلى استعمار ثقافي و اجتماعي و قانوني أشنع من الاستعمار المباشر! ثم تحت شعارات الحداثية والقومية و الاشتراكية و التقدمية التحقت النخب بكل سراب التقدم الغربي المسيحي وأخذت من الغرب الخلاعة و التفسخ و قوامة النساء على الرجال عوض أن تأخذ منه دولة القانون و المؤسسات الدستورية و حقوق الإنسان فتحولنا إلى مسوخ مشوهة وسمعت كثيرا من أعضاء حكومتنا لا ينطقون بلغة عربية أعلن الدستور بأنها لغة البلاد بل ينطقون بمزيج هجين من فرنسية شعبية و عربية دارجة بسيطة ! أعتقد أن سر إخفاقنا العربي يكمن في أننا عشنا بالرغم منا انتفاضات شعبية حقيقية ضد الفقر و التهميش و الظلم لكننا لم نقرأها كما يجب و لم نوجهها نحو بناء المواطنة بل حاول كل متسلق و صاحب مصالح أن يركب فرسها الجامح و يحول مجراها نحو نهره الخاص فأصبحنا نعيش حالة التصحر الحضاري و الخواء الفكري إلى أن وصلنا إلى مرحلة التخطيط لإعادة الأسد الشعبي المتمرد الحر إلى قفص السيرك و استعمال السوط إذا ما زأر أو تحرك أي الرجوع إلى جينات العرب القديمة الخاضعة بالفطرة للسمع و الطاعة ! ولكن آخر دعوانا للمتلاعبين بمصائر الشعوب هو التذكير بالحكمة القائلة : إذا رضيت الشعوب أن تكون قطيع أغنام فلا تلومن نخبها الحاكمة أن تتحول إلى ذئاب.