17 سبتمبر 2025

تسجيل

في الذكرى العشرين لوفاة الزعيم بورقيبة الإنسان !

20 أبريل 2020

في الذكرى العشرين لوفاة زعيم تونس 6 أبريل 2000- 2020 يحتدم الجدل حول الرجل بين طرفين متطرفين الأول يؤله الزعيم والثاني يشيطنه، والحقيقة أن الرجل انسان لا ملاك ولا شيطان. نشرت مجلة ليدرز وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة تتمثل في رسالة شكوى وتظلم كتبها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الى وكيل الجمهورية سنة 1990 وهو في معتقله الأخير بمدينة المنستير حيث فرض عليه الرئيس السابق زين العابدين بن علي بعد أن عزله من السلطة اقامة جبرية قسرية حولت ذلك الأسد المريض الى سجين وراء قضبان مهينة لا يزوره إلا من يختارهم زبانيته بحذر وخوف والمزيد من الاذلال والتشفي. ولكن الذي لفت نظري بعد نشر الوثيقة ذلك السيل من التعليقات بأقلام رجال من جيلنا الذي عمل مع بورقيبة ومنهم المتحسر المنافق عما كابده الزعيم بينما هو خلال 13 سنة من محنة بورقيبة لم يحرك ساكنا ولم يقل كلمة حق ولم يصدع برأي وتلك كانت حال الأغلبية من وزرائه السابقين الذين لم ينبسوا ببنت شفة ماعدا قلة شجاعة ويتيمة فبن علي كان لا يرحم من يقول كلمة حق وكان يغري بالمناصب أو بمجرد السلامة كل من عمل مع الزعيم فانتبذ أغلبهم مكانا قصيا مع الفارق العظيم بين معنى الأية الكريمة وواقع الخذلان واستمرت مأساة بورقيبة 13 عاما ختمتها مهزلة جنازته التي أخرجها بن علي مثل مسرحية سخيفة خوفا من جثمان الزعيم بعد الخوف من الزعيم حيا. شرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته العشرين فتباروا في تعداد خصال الزعيم لا من منطلق الحقيقة التاريخية بل من منطلق الانتقام من عهد خلفه زين العابدين ومن عهد خلفاء بن علي من حكومة الترويكا وما بعدها. فوظفوا هذه المناسبات بطريقة عقائدية وحزبية لا تليق بتاريخ تونس الذي يجب أن يبقى من مشمولات أنظار المؤرخين لا في أيدي السياسيين. وانقسم المتكلمون الى مؤله للزعيم بكونه كان ملاكا معصوما والى شاتم له بكونه كان شيطانا رجيما! وقرأت العجب العجاب في قلب الحقائق وتدليس التاريخ وأغرب ما قرأت هو أن الزعيم ليلة 7 نوفمبر 87 ليلة انقلاب وزيره الأول عليه كان في تمام مداركه العقلية وكان متمتعا بكل طاقاته العقلية وهذا مجرد هراء لا يستقيم لأن الخطأ القاتل لبورقيبة هو تشبثه بأوهام السلطة وهو في أرذل العمر ثم المراهنة على أحد الضباط المهووسين بالسلطة زين العابدين بن علي الذي كلفه الزعيم بمهمة القضاء على من يعتبرهم أعداء نظامه. وأنا بفضل علاقاتي الوثيقة مع رجلين عاشا في قلب المرحلة القاسية والتراجيدية من حياة بورقيبة وهما رئيس حكومته محمد مزالي وسكرتيره الخاص محمود بلحسين أعرف أسرار وخفايا تلك المرحلة المبكية المضحكة من "غرق" بورقيبة في لجة العمر و"غرق" تونس في لجة الاستبداد. وهي أسرار احتفظ بها اليوم لنفسي حتى تهدأ عواصف الأحقاد والمزايدات وأنشرها على جيل المؤرخين النزهاء لكتابة تاريخ أمين لتونس. يشهد الله أنني شخصيا بحكم منصبي في مطلع الثمانينات كنت قريبا من الزعيم أجلس كما قال لي هوعديد المرات على نفس كرسيه الذي بدأ منه الكفاح وهو كرسي مدير صحيفة العمل لسان الحزب التي أسسها هو وأدارها منذ سنة 1932 لكن علاقاتي القديمة قبل المسؤوليات مع الزعيم وحزبه لم تكن بلا مغامرات لأني كنت الى جانب الحق في مناسبات وطنية عديدة منها قضية المظلمة المسلطة على المناضل النقابي والدستوري أحمد بن صالح فزج بنا نظام بورقيبة أنا مع الصديقين أحمد الهرقام وعامر سحنون في الايقاف يوم 4 سبتمبر 1969 و"استنطقنا" محافظ الشرطة حسونة العوادي وحرمنا من السفر لمواصلة الدراسة حين صادرت الشرطة جوازات سفرنا ثم كنت الى جانب الصديق محمد مزالي حين عزله بورقيبة من وزارة التربية بتهمة تعريب برامج التعليم وأسلمتها وقاومنا عقلية التغريب القهرية لتونس على أيدي المنبتين ومرة أخرى اضطهدنا البوليس السياسي واستنطقني مفتش أمن الدولة محمد كدوس وحجزوا جواز سفري في بداية السبعينيات ثم شاءت أقدار تاريخية تتجاوزنا أن يعين الزعيم بورقيبة نفس محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فواصلنا كفاحنا الصامد من أجل التعريب وضخ المزيد والممكن المتاح من الديمقراطية في مؤسسات الدولة وربط بلادنا بمحيطها الحضاري العربي والاسلامي والافريقي بعد طول جفاء ووشح بورقيبة صدري بوسامي الاستقلال والجمهورية ولكن الدسائس لم تهدأ ضد تيارنا المتمسك بالهوية وتنويع التعاون مع الصين وتركيا والخليج وافريقيا داخل الحزب الدستوري وبتخطيط قديم من زين العابدين نفسه والذين تجندوا لخدمته وبأيد خارجية الى أن تم نفينا ومصادرة بيوتنا وتشتيت أولادنا وحتى اغتيال مناصرينا تم قتل اثنين من الوطنيين الدستوريين هما الحاج بوبكر العمامي المقاوم للاستعمار الذي زجوا به معي في قضية كيدية عام 1990 وعلى السعيدي رفيق كفاحنا والمعارض لبن علي والمدير بوزارة الخارجية والذي أغتيل في ديسمبر 2001 في ظروف مشبوهة وغريبة وهو دليل على أن ضحايا الاستبداد النوفمبري من كل التيارات ومنها التيار الدستوري الأصيل في أبعاده المتمسكة بالحريات والهوية. واليوم نرى المتاجرين بتاريخ بورقيبة اما بالتمجيد المطلق واما بالشيطنة المطلقة بينما الحقيقة هي أن بورقيبة انسان لا هو بالملاك ولا بالشيطان أنجز أعمالا كبيرة ولكنه ارتكب أخطاء كبيرة أيضا ولم تكن حادثة الاطاحة به خارجة عن سياق مسيرته هو ذاته لأنه هو الذي أرسى تقاليد اضطهاد أسلافه والتنكيل بمعارضيه ومنافسيه. أليس هو الذي ظلم الطاهر بن عمار الزعيم الوطني موقع وثيقة استقلال تونس وأليس هو الذي سجن وسلب العائلة المالكة بعد أن ساعده أمراؤها بالمال والسلاح وأليس هو الذي أمر بوضع المتهمين بمحاولة الانقلاب عام 1962 مقيدين بالسلاسل من أرجلهم كالدواب سنوات طويلة في سجن غار الملح وأليس هو الذي اضطهد اليوسفيين ثم الشيوعيين ثم البعثيين ثم الاسلاميين ثم البنصالحيين ثم النقابيين ثم المزاليين وطلق رفيقة عمره بصورة تناقض تماما مواقفه من المرأة حتى أنه في اخر مرحلة من عمره انهارت الدولة وقال لي محمد مزالي صباح يوم 7 نوفمبر 1987 "الجنرال بن علي انقلب على سعيدة ساسي وليس على بورقيبة"... وقال لي أحمد بن صالح في نفس اليوم: "ان السلطة كانت ملقاة على قارعة الطريق فجاء بن علي والتقطها دون عناء" النتيجة هي أن تسلط الزعيم هو الذي صنع تلك الآلة الجهنمية مفترسة الرجال وزيتها وأعدها للاستعمال حتى أكلته نفس الآلة بدون رحمة وبلا أي نصير. وللتاريخ فهذا لا يمنع من اعادة الاعتبار لأحد قادة تحرير تونس ومؤسس دولتها الحديثة ومعمم التعليم والصحة والرجل النظيف الذي لم يملك حجرة ولا شجرة. أروع وأبلغ ما نفهم به تناقضات الانسان نجده في الأية الكريمة: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. صدق الله العظيم. [email protected]