12 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ ستة وستين عاما وجامعة الدول العربية تقبع في القاهرة مع استثناء تواجدها على أرض تونس في الثمانينيات عندما خرجت مصر عن الإجماع العربي بسبب معاهدة مخيم داود. ومن المفارقات التاريخية أن أمينها العام الأول هو عبد الرحمن عزام باشا المصري الذي ولد سنة 1893 وحارب مع العثمانيين في البلقان ثم تطوع للحرب ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا إلى جانب الملك السنوسي. فالجامعة ولدت على أيدي مجاهد عربي حين كان الملوك العرب يجاهدون وتوالى الأمناء العامون على الجامعة من عبد الخالق حسونة إلى محمود رياض إلى عصمت عبد المجيد مرورا بالقوسين التونسيين عندما تولاها الشاذلي القليبي. إلى أن حل بها مضطرا لا مختارا عمرو موسى بعد أن فكر محمد حسني مبارك التخلص منه بتثليجه في "فريزر" الجامعة. وأذكر في مطلع الثمانينيات عندما استقرت الجامعة في ضاحية "مونبليزير" بالعاصمة التونسية أن أحد كبار مساعدي الشاذلي القليبي كان يطوف بي في الأدوار الستة للجامعة وهو يحذرني مازحا قائلا: "إذا رأيت أحد موظفي الجامعة يتصفح جريدة فلا تظنن أنه يطالع مقالة أو يستطلع خبرا فهو بكل بساطة يقرأ جدول قيمة صرف الدولار لأن رواتبهم بالدولار". ثم وصل بي الصديق الموظف إلى مكتب مهيب مغلق علقت عليه يافطة كتب عليها " مكتب الدفاع العربي المشترك" فشعرت بالرهبة متذكرا بأن الجامعة وقعت سنة 1945 معاهدة الدفاع العربي المشترك قبل معاهدة حلف شمال الأطلسي وكان يقين الملوك العرب أن هذه المعاهدة ستزيل الصهيونية من خارطة الشرق الأوسط وتحرر فلسطين! وفاتهم بأن جمهوريات انقلابية عربية سترثهم وتؤبد رؤساءها في الحكم بل وستورثها للأنجال. وأعود بقرائي لزيارة مقر الجامعة وقد طرق صديقي باب مكتب الدفاع العربي المشترك، فلم يجب أحد ففتح صديقي المكتب لنجد الموظف فيما يشبه الغيبوبة اللذيذة بين النوم والكرى وقد استرخى مطمئنا إلى أن لا أحد من الأمناء العامين المساعدين يمكن أن يزوره أو يقطع غفوته، وأذكر أن صديقي الموظف بالجامعة علق على هذه المفاجأة قائلا: "إن حال الدفاع العربي المشترك كحال هذا الموظف المسؤول عنه، كلاهما يغط في نوم عميق". اليوم بعد ستة وستين عاما من عمر الجامعة جرت في العالم العربي أنهار التاريخ الحديث تحت جسور حكامه وشعوبه وزلزلت الأرض العربية بهزائم 1967 وأنصاف انتصارات 1973 وثورات 2011 لا بد من الاعتبار بهذه التحولات الجذرية التي دكت صروحا قديمة وأعلنت ميلاد الأمة من تحت رماد الخوف ولا بد من إعادة النظر كليا في ذلك الهيكل الجامد وهزه بشدة ليستفيق على الواقع الجديد. فالجامعة لم تعد جامعة لدول عربية بل هي تريد أن تكون جامعة للشعوب العربية وللمجتمعات المدنية العربية مثلما هي الحال في الاتحاد الأوروبي حيث يجمع الاتحاد مختلف الفعاليات والقوى المدنية النافذة ليتحول الاتحاد إلى آلية عملية حية تتحرك لتنسيق المواقف الأوروبية وتترفع عن المصالح الوطنية الضيقة لتدافع عن مصالح القارة الأوروبية وتفرض حضور أوروبا في العالم. إن هذا النموذج الأوروبي استطاع عبد الرحمن بن حمد العطية الاستنارة به عندما تحمل مسؤولية مجلس التعاون لدول الخليج العربي وهو السفير السابق في عواصم أوروبية ولدى المنتظم الأممي وحين كان مسؤولا ساميا بالخارجية القطرية. فهو الدبلوماسي العربي المناسب اليوم لأمانة جامعة الدول العربية وقد وفقت دولة قطر حين رشحته لخلافة عمرو موسى ووفقت الدول الخليجية حين عززت هذا الترشيح. وقد تشرفت شخصيا بالتعرف على أبو حمد حين كان في الثمانينيات سفيرا لقطر في باريس ثم حين اشتركنا في الدوحة في تأسيس مركز قطر لاستشراف المستقبل في التسعينيات وعرفت فيه الكفاءة العالية مع رفعة الأخلاق وذكاء التعامل مع الملفات الدقيقة بالحكمة والتشاور والأناة وهي صفات ستؤهله للنجاح في إدارة التحول المطلوب من الجامعة العربية اليوم في ظرف إقليمي شديد الحساسية وفي مناخ دولي صعب المراس مشحون بالتحديات، بل أكبر وأكثر من ذلك فهو المسؤول الذي نرجو أن يعود العرب للتاريخ على يديه وأيدي أمثاله من المخلصين الأمناء.