16 سبتمبر 2025

تسجيل

لماذا نحتمي بفكر الآخر ونتهم تراثنا الفكري بالفشل ؟ (4)

20 مارس 2016

الواقع أن تصوير الفتنة السياسية في العصر الأول الإسلامي بأنها معيار لعدم التسامح، كما يذهب إلى ذلك د. محمد جابر الأنصاري، نعتقد بخطأ تقديره، لأسباب كثيرة منها أن الأحداث التي وقعت، تداخلت فيها الأهواء، واختلفت الآراء والاتجاهات خاصة أنها فتنة، وجد فيها خصوم الإسلام، من بعض المستشرقين وغيرهم عبر التاريخ الإسلامي، مادة للتشنيع والتهوين من شأن تأثير الإسلام في الصحابة (رضي الله عنهم) وفي إيمانهم وتقواهم وإخلاصهم لهذا الدين القويم.. إلى جانب أن كتابة تاريخ هذه الفتنة أصابها الكثير من التحريف والتهويل حول ما جرى ـ كما يرى د.إبراهيم علي شعوط ـ فـ"المسافة التي مضت بين وقوع هذه الأحداث وبين تدوينها، من شأنها أن تجعل الحقيقة مطمورة بين أنقاض الروايات المتضاربة، والأهواء الضالة، والأغراض السيئة، التي وجدت في المجتمع الإسلامي، إبان فترة التدوين". فلا شك أن تأخر كتابة التاريخ عن هذه الفتنة السياسية إلى هذه الفترة المتأخرة، جعل الرواية عنها متضاربة وناقصة، وتحتاج إلى دقةـ تجلي الحقيقة الغامضة في جوانبها المهولة. حتى أن البعض صور هذه الفتنة بتصوير عجيب لم يخطر على بال أحد، ناهيك عن معقوليتها في ظروف نشأة الدولة الإسلامية وخطوات نموها. إذ يقول الشيخ عبد الله العلايلي عن هذه الفتنة:"إن أبا ذر لمس هذا الاستياء، وحاول أن يضع حدا للتدهور الاجتماعي السريع الذي بدأ يؤذن بالثورة على الرأسمالية الوليدة. وقد استنام إلى أفكار عبد الله بن سبأ التي تؤلف برنامجه، لأنها وافقت أفكاره، لأنه وجد فيها علاجًا لا يبعد عن روح الإسلام في جوهره، خصوصًا وأن برنامجه مرده إلى سياسة عمر "رضي الله عنه" المالية في غايته بدون النظر إلى الصيغة التي أفرغ فيها. ونحن لا ننكر أن أفكاره الاشتراكية متطرفة، ولكن التطرف دائما شأن الشعور الضيق، والمفكر بأفكار ثورية يكون دائما متطرفًا. وكذلك الشعب الثائر يكون متطرفًا على مقدار كبير". والأعجب أن تتساوى عند الشيخ عبد الله العلايلي (الثورة) الفتنة في صدر الإسلام مع الثورة البلشفية في روسيا في المنطلقات ضد الرأسمالية البغيضة!! لكن الفارق أن الثورة البلشفية قامت ضد رأسمالية عتيقة، موغلة في القدم، لكن (الثورة) الفتنة قامت ضد رأسمالية وليدة في صدر الإسلام!. وهناك (رأي ليبرالي) عن هذه الفتنة السياسية يختلف مع هذا التحليل الذي طرحه الشيخ عبد الله العلايلي، يقلل من دور عبد الله بن سبأ وتأثيره وأفكاره المتطرفة الخطيرة في جانبها الاشتراكي التحريضي.. يقول د.طه حسين في كتابه(الفتنة الكبرى) "فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين - في صدر الإسلام - عن أن يعبث بدينهم وسياستهم، وعقولهم، ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهوديًا، وكانت أمه سوداء، وكان يهوديا أسلم: لا رغبا ولا رهبًا، ولكن مكرا وخداعا، ثم أتيح له من النجاح ما كان يبغي. فحرض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه وفرقهم بعد ذلك -أو قبل ذلك- شيعا وأحزابًا. هذه كلها لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقوم عليها أمور". إذن التاريخ قد يخضع للميول والاتجاهات، بصورة لافتة تجعل الآراء تتنافر وتتقاطع،بصورة حادة،والنصوص المقتبسة تغني عن المناقشة في هذا الجانب المضطرب في تأويله. والشيء الذي نود التعليق عليه في هذا الأمر، أن الشيخ العلايلي وصف الفتنة (الثورة عنده) بأنها قامت لإجهاض الرأسمالية الوليدة، واحتجاجا على سياسة الخليفة عثمان (رضي الله عنه) المالية! لكنك تجد بين ثنايا كتابه (مقدمات لا محيد عن درسها جيدًا لفهم التاريخ العربي)، أن التاريخ الإسلامي قام على أساس ثبات القبيلة ـ يلتقي العلايلي مع الدكتور الأنصاري هنا مع بعض الآراء في تحليله السوسيولوجي في تجربة العرب السياسية ـ وهي عنده أنها "أقامت المجتمع العربي على العصبية النكراء".ولو صح هذا القول من هؤلاء في تحليلهم لما وجد في المجتمع العربي الإسلامي، بعد الفتوحات الكبيرة في العراق والشام وبلاد فارس، الأعراق والديانات المسيحية، واليهودية، والصابئة، والآشوريون، والفينيقيون، واليزيديون، وغيرها من الأعراق والديانات، منذ العصر الأول حتى الآن. وأيضا كيف تجتمع هذه الصفات النافية لبعضها البعض، الثابت القبلي والنعرة العصبية، مع الأفكار التقدمية الاشتراكية! بمقاييس عصرنا مثل الثورة على الرأسمالية الوليدة، في بدايات الدولة الإسلامية. ويرى الباحث وليد نويهض أن "المفاهيم العامة التي توصل إليها العلايلي لا تخلو من إسقاطات أيديولوجية تتحكم فيها النزعة المعاصرة، في قراءة تحولات تدين بقوة إلى فضاءات ثقافية تخضع بدورها إلى عناصر مركبة من المكان والزمان، فتركيز العلايلي على النزعة القبلية كتفسير وحيد لحركة التاريخ أدى به إلى إهمال عناصر أخرى أسهمت في صنع الحدث وإنتاجه، فهو لا يجيب عن أسئلة معلقة تتعلق بـ: لماذا انتصر الإسلام إذا كان التدين ضعيفًا إلى الحد الذي قاله؟ ولماذا نجحت أقلية صغيرة ومطاردة في فك عزلتها وتحولها إلى قوة نجحت لإنزال الهزيمة بالمعسكر المضاد في مختلف معاركها العسكرية والسلمية". ولا شك أن العامل القبلي كان ضمن العوامل التي اشتركت في التحول الذي طرأ على مسار الدعوة الإسلامية، لكنه ليس العامل الوحيد، بل إن الإسلام استطاع أن يضعف دور القبيلة ويتجاهلها، عندما وضع الرسول (ص) الصحيفة ـ دستور المدينة ـ دمجت كل الطوائف والعشائر في هذه الأمة الواحدة الجديدة. وشملت غير المسلمين أيضًا، وهذا يرجع إلى دور النص (القرآن الكريم، السنة النبوية) في التوحيد والتآخي والنصرة بالحق، وتحقيق العدل وغيرها من الجوانب التي وضعها الشرع الإسلامي، ولذلك (فالقوة الإسلامية الجديدة) لعبت دورًا في لحظة تاريخية محددة، في تفكيك عناصر التحالفات القبلية السابقة، وأعادت دمج العناصر القبلية وتوحيدها في مشروع سياسي ثقافي أرقى من السابق. وهو أمر يفسر انتقال القبائل من مرحلة التحالف التضامني، إلى مرحلة الاتحاد الاندماجي تحت راية الإسلام".