20 سبتمبر 2025
تسجيلكما تختلف طبائع الناس فمنهم سوداويون لا يرون بصيص أمل، ومنهم متفائلون بغير حدود، فكذلك تختلف رؤى الشعراء، وأتوقف هنا عند شاعرين عالميين كبيرين، هما ت.س. إليوت و برتولت بريشت، فالواقع أن المدنية الأوروبية الحديثة قد أفزعت ت. س. اليوت.. أفزعته بضجيج آلاتها التي لا تكف عن الحركة، فتفسد بضجيجها التأملات الميتافيزيقية والشطحات الصوفية، وأفزعته بأناسها الذين حشيت رؤوسهم بالقش، فغلبوا المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، واندفعوا متزاحمين في شتى مناحي الحياة. يفكر كل منهم في ذاته فحسب، دون أن يشغل نفسه بالآخرين إلا إذا تحققت له من وراء هذا منفعة مادية ملموسة.وبدافع الفزع من المدنية الأوروبية الحديثة الذي اعترى إليوت، فإنه أولاها ظهره، بعد أن صورها في هيئة سهل مقفر لا أمل يرتجى منه، وجلس الشاعر وحيداً على شاطئ الغيب، بعيداً عن السهل المقفر، ينشد الخلاص بالعودة إلى حظيرة الدين، منقباً عن المثل العليا والمبادئ السامية التي كانت سائدة في العصور الخوالي، وحلق الشاعر في آفاق شطحاته الصوفية، بعد أن تصور أن جسر لندن – الذي يمثل المدنية الأوروبية في نظره – قد انهار وشبع انهياراً:على الشط جلست- أصطاد السمك، ومن ورائي السهل المقفر- أرتب أملاكي على الأقل، قبل الرحيل-جسر لندن يهوي، جسر لندن يهوي.. يهوي أما برتولت بريشت، فإنه وإن كان قد فزع – هو الآخر – من مظاهر التفسخ في المدنية الأوروبية الحديثة، إلا أنه لم يولها ظهره مرتداً إلى العصور الخوالي بقيمها ومثلها التي كانت تتفق معها وحدها دون غيرها من العصور؛ لأنه من البديهي أن لكل عصر قيمه ومثله النابعة منه وحده، وإنما حاول بريشت تشخيص العلل والأدواء التي انتابت تلك المدنية، كما أبرز نقائص المجتمع الرأسمالي، مطالباً – في شعره – بتقويضه من أساسه، لكي تزدهر رؤوس الناس بالفكر الحر بدلا ً من أن تظل محشوة بالقش، فيفكر كل فرد منهم – بالتالي – في ذاته وفي الآخرين أيضاً، حيث «يصبح الإنسان صديقاً للإنسان»، وما من شك في أن هذا العالم الجديد لن يطلع فجره إلا إذا قضى على الحقد المتولد من استغلال الإنسان للإنسان، وذلك ما تحققه الثورة ضد الظلم وعدم السكوت عليه.والحق أن حض بريشت للإنسان على الثورة ضد الظلم كان العامل الذي دفع النازية الهتلرية إلى إحراق مسرحياته ودواوينه ضمن ما أحرقته أمام مبنى دار الأوبرا في برلين، الأمر الذي جعل الشاعر «يغير بلداً ببلد أكثر مما يغير حذاء بحذاء» إذ هرب من الإرهاب النازي في ألمانيا وقتها، حيث تنقل في العديد من الدول الأوروبية، وإن لم يفقد إيمانه في أن الإنسان سيتجاوز ذلك الواقع المرهق للأعصاب، متخطياً إياه إلى دنيا جديدة، ولذا نراه يوجه خطابه في ذلك الوقت «إلى الأجيال المقبلة» قائلاً:"أنتم يا من ستظهرون- بعد الطوفان الذي غرقنا فيه- فكروا.. عندما تتحدثون عن ضعفنا- في الزمن الأسود الذي نجوتم منه- كنا نخوض حرب الطبقات- نغير بلداً ببلد.. أكثر ما نغير حذاء بحذاء- يكاد اليأس يقتلنا- حين نرى الظلم أمامنا- ولا نرى أحداً يثور عليه- آه نحن الذين أدرنا أن نمهد الأرض للمحبة- لم نستطع أن يحب بعضنا بعضا- أما أنتم.. فعندما يأتي اليوم الذي يصبح فيه الإنسان صديقاً للإنسان- فاذكرونا.. وسامحونا. إن برتولت بريشت على الرغم من جهامة الزمن الأسود الذي عاش فيه، لم ينكص على عقبيه، كما فعل توماس إستيرنز اليوت، وإنما تطلع إلى عالم جديد.. في زمن مشرق مقبل، يحب الناس فيه بعضهم بعضاً، دون أن ترفع الأحقاد رؤوسها السوداء في قلوبهم.