12 سبتمبر 2025

تسجيل

هذه هي قطر يا ولدي

19 ديسمبر 2014

قبل سبعة عشر عاما، ألقيت رحالي على أرض الدوحة، وتحديدا في السابع عشر من سبتمبر، كان يوما شديد الحرارة، ما إن فتحت أبواب الطائرة حتى لفحت وجهي هبات من الهواء الساخن، دلفت إلى المطار، ومنه إلى شارع قريب حتى وصلت إلى "النجمة"، حيث السكن الذي جهزته "جريدة الشرق"، ولم تكن أكثر من غرفة في شقة برفقة اثنين من الزملاء.في اليوم التالي، ذهبت إلى مقر الصحيفة والتقيت برئيس التحرير الأستاذ ناصر العثمان، الذي تشرفت بالتعرف إليه، فهو قامة كبيرة صحفيا ومهنيا وأخلاقيا وتواضعا وتعاملا، أحفظ له من الود الكثير.. تحادثنا وتجاذبنا أطراف الكلام، وبدأت أتلمس طريقي في الجريدة، والحقيقة أن الأمر لم يرق لي، لشعوري بالغربة والضيق، وبعد أيام ذهبت إليه وأخبرته أنني أرغب بالعودة إلى الأردن، لكن الرجل رد علي بكل هدوء "أقترح عليك أن تجلس شهرا وتتعرف على البلد، وخلال هذا الشهر لست مطالبا بأي عمل، فإذا أعجبك الوضع بقيت وإلا تستطيع أن تغادر"، ووافقت على عرضه وبدأت أستطلع البلد، والنتيجة هي أنني لا زلت هنا في قطر للعام السابع عشر.هذه الأعوام التي قضيتها هنا كانت مليئة بالمسرات، ولم يكن فيها ما يكدر، باستثناء وفاة والدي رحمه الله، الذي وافته المنية وأنا بعيد عنه، ولا أملك إلا أن أترحم عليه، فقد قدم لي أكثر من طاقته وطاقة أسرتي لكي يعلمني، وأدينُ له بالفضل ما حييت، ما عدا ذلك سارت الأيام هنا بسلاسة وروعة، تعرفت فيها على الناس وعلى شعب من أجمل وأطيب شعوب الأرض، فكثر الإخوان والأحبة وزاد الأصحاب والرفاق، دخلت بيوتهم وأكلت طعامهم وشربت ماءهم، وسهرت معهم، اتفقنا في غالب الأحيان واختلفنا أحيانا، لكن الاختلاف لم يفسد للود قضية.خلال سبعة عشر عاما شاهدت قطر وهي تنمو وتتطور وتكبر وتصبح أكثر جمالا، وشاهدت الدوحة وهي تتحول من قرية صغيرة تنام الساعة الثامنة مساء إلى مدينة كبيرة ليلها كنهارها، لا تكاد تنام، وشاهدت الكورنيش الذي ينتهي بالشيراتون الذي كان أكبر مبنى وأبرز معلم في الدوحة، وهو يتحول إلى بقعة من الجمال الذي تحفه الأبراج وتظلل سماءه أشجار النخيل الباسقة، وعايشت سوق النجادة الذي هدم ليحل محله سوق واقف ليصبح شاهدا على الانطلاق من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، وشاهدا على ربط الحداثة بالتراث والجذور، ليتوسع السوق القديم ويحتل مكانة بارزة في قلب الدوحة، ويصبح رئتها التي يتنفس الناس منها.خلال هذه الأعوام تعرفت إلى القطريين عن قرب، فكانوا نعم الأهل والإخوان والجيران والأحبة، خلقا وأدبا وتعاملا وترحيبا، غمرونا بمحبتهم حتى شعرنا وكأننا أصحاب البيت ولسنا ضيوفا فيه، أسكنونا منازلهم، ودرسوا أبناءنا في مدارسهم، وعالجونا بمستشفياتهم، من دون منة، بل برحابة صدر، ونعمنا بأمنهم وأمانهم، وزرعوا دروبنا بابتسامتهم وبشاشة وجوههم، ما قصدناهم في خير إلا كانوا لنا موئلا ومعينا.لله درك يا قطر كم أنت طيبة، لله دركم أيها القطريون كم أنتم طيبون، أرض طيبة وشعب كريم، وقيادة متواضعة،لا تأخذها في الحق لومة لائم، تناصر الضعيف وتأخذ الحق من القوي وتضرب على يد الظالم، وتنزل الناس منازلهم، وتقري الضيف، لا تستثني من الخير أحدا، فأميرها الوالد الشيخ حمد بسط رداءه لكل مواطن ومقيم، وأورث ابنه الأمير تميم من صفاته ما جعل الابتسامة شعارا لدولة يعمها الخير في كل أنحائها، فجاءت الدنيا لتقول إن 96% من سكان قطر راضون عن حياتهم ويشعرون بالسعادة.ذات يوم كنت أتجول في شوارع الدوحة مع أحد القادة الكبار لإحدى الفصائل الفلسطينية، وأثناء التجوال باغتني بسؤال: لماذا لا أرى أثرا للشرطة ورجال الأمن في الشوارع، فقلت له لأن قطر يحكمها أمير ينطبق عليه القول: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت"... فالأمن يصنعه العدل وليس العسس، وفي ظل العدل يخيم الأمن والأمان على المكان، ولهذا يخيم الأمن والرضا والطمأنينة في أرض قطر الخير.لهذا كله حق علينا أن نبادل قطر والقطريين حبا بحب ووفاء بوفاء، وحق علينا عن نعمل من أجل رفعتها بين الأمم، وأن نحافظ على أمنها وأمانها، وأن نعطيها أفضل ما لدينا، وأن لا نبخل عليها بعمل أو خبرة أو جهد، لأنها لم تبخل علينا يوما.ينتابني الفرح والحبور، حين أرى الوافدين والمقيمين، يصدعون بمحبتهم لقطر وأهلها أينما حلوا، باستثناء نسبة صغيرة من مرضى النفوس الذين يعيشون على "الارتزاق والنكران"، وينقلون هذه المحبة إلى أوطانهم في مشارق الأرض ومغاربها، عربا وعجما، مسلمين وغير مسلمين.كثير هي القصص التي تروى، وكثيرة هي الحكايات التي تحكى عن قطر وأهلها وأميرها، وما قلته غيض من فيض، وحفنة من بحر، حتى وإن كان الكلام يعجز عن وصف المحبة والمودة في أرض لا تعرف إلا الخير.وحق علينا أن نقول: كل عام وأنتم بخير يا قطر، أميرا وحكومة وشعبا، وحق لكم أن ترفعوا رؤوسكم عاليا بين العرب وأمم الأرض، في يومكم، وكل الأيام الحلوة أيامكم بإذن الله.. أدام الله عليكم الخير والعز والنعمة والأمن والإيمان والطمأنينة والسكينة والرضى والمحبة.