15 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); سبقت الإشارة إلى مركزية الإنسان في أي عملية نهضة حضارية، وأشرت إلى أن هناك اتفاقا عاما على هذا الأمر، ولكن رغم ذلك نجد كثيرا من الشعوب – السودان من بينها – تنصرف حين تهم بالإصلاح لأجل النهضة عن الإنسان لما ينطوي عليه إصلاحه من صعوبة وحاجة للصبر الطويل، فينصرفوا نحو ما يظنونه ركائز فرعية يمكن أن يتصوب جهد الإصلاح تجاهها حتى تقوم النهضة عليها عوضاً عن إصلاح الإنسان المضني. لذلك، وقبل أن نخوض في أمر إصلاح الإنسان، علينا أن نفند بعض الضلالات التي تشكلت في وعينا العام عن النهضة وسبل الوصول إليها.• ضلالة الثروة الطبيعية: الإنسان بطبعه مجبول على القعود عن بذل الجهد والعمل ما لم يستفز إليه أو يضطر، لذلك فإن الذي يرث مالاً عن أهله قلما ينهض لعمل إلا أن ينفد منه المال. وربما لم يختلف هذا السلوك إذا كان المرء موعوداً بالإرث حتى دون أن يقبضه، وهذا يشبه حالنا اليوم.لا أدري متى ولا كيف انتشرت ضلالة أن السودان هو من أغنى الدول في موارده الطبيعية ولكنها الآن أصبحت شديدة الرسوخ إلى درجة عقائدية ما يجعل البحث عن أصل هذه الخرافة مثيراً للاهتمام، ولكن ذلك بحث يخرج عن الإطار الحالي، ويمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أمرين قد يساعدا على فهم هذا الإشكال.الأمر الأول هو أن الخرافة بدأت في السودان القديم الذي حوى بعض البترول إضافة إلى صيت الطبيعة الغنية لكل أرض استوائية وذلك الغموض الذي يحيط بكل ما هو إفريقي وبدائي، والذي يخبئ وراءه في العادة كنوزاً كبيرة لا يعرف الإفريقي – لبدائيته – كيف ينفقها، حتى يأتي الحضري الأبيض مغامراً ومتخطياً مجاهيل الغابة الإفريقية وشعوذة أهلها ليفوز بالكنز! هذه الصورة النمطية ربما تكون فيها شيء من المبالغة ولكنها لن تخلو من قدر من الحقيقة. والسودان الذي غلبت عليه الثقافة العربية رأى نفسه بمنظارها الذي اعتاد الصحراء والقفر فرآها جنة وارفة وهو كذلك بالنسبة لمنابع ثقافته. ثم إن العرب الذين ينظر إليهم السودانيون بشيء من الإعلاء يعجبهم في السودان ما يفقدوه عندهم، بعض الماء والخضرة، وذلك إعجاب تدفعه ربما الحاجة أكثر من دفع السياحة والنظر فصارت هذه الميزة السودانية على العرب – المستعلين بثقافتهم – ثمينة جداً وفريدة فأسرف السودانيون في تعظيمها طلباً للمباهاة مع العربي.الأمر الثاني هو ذلك النزوع الطبيعي نحو الدعة والسكون الذي ذكرته في مبتدأ الفصل، والذي يعوز الدافع نحو النهضة لن ينهض. فالنهضة ليست تلقائية وليست يسيرة، بل تستدعي جهداً كبيراً وتعباً ما يعني أنها تستدعي حافزاً عالياً، وليس ثمة أمر محبط للحافز ومقعد لهمة الإنسان سوى سهولة المال والاستغناء عن العمل. ولكن كيف يتنزل هذا الإحباط لمستوى الفرد فيؤثر على همته الذاتية؟ بتعبير آخر، هل سيمتنع الفرد عن العمل بجد لكسب العيش الطيب لأن البلد غنية بالبترول والذهب؟ إذا وجد الضمان لمعاشه سيمتنع في الغالب إلا أن تكون له همة فطرية ونشاط. ولكن التعقيد يكون عندما ينعدم الضمان، أي عندما لا يجد كافلاً من الدولة أو غيرها إذا قعد عن العمل، فهل سيؤثر عليه كون البلد ذات ثروة طبيعية كبيرة أو لا؟ نعم سيتأثر. العنصر الذي يغفله كثير من الناس في دراسة الاقتصاد وأحوال المعاش والاجتماع هو عنصر الثقافة الاقتصادية وأخلاق العمل. وهو العنصر الذي قد يغيب تأثيره عند النظر على مستوى الفرد ولكنه شديد الوضوح من المنظور الكلي. مثال ذلك نجده في نظرية ماكس فيبر عن تأثير الأخلاق البروتستانتية على ولادة الرأسمالية في أوروبا دون غيرها. وليس عسيراً ملاحظة أن بعض الشعوب اعتادت إتقان العمل أكثر من غيرها حتى إذا استوى الأجر، لأن الإتقان أصبح طبيعة وثقافة عند هذه الشعوب ولم يعد متوقفاً على قدر الأجر المقابل. ذات الأمر نجده معكوساً عند الشعوب التي تحرص مثلاً على تحضير الطعام بما يزيد على الحاجة وإكثار الأصناف، ليس لسعة في المال، بل أحياناً يكون هذا في ضائقة، ولكن لأن الأمر أصبح ثقافة، ثقافة تفسر من السلوك الإنساني ما يعجز المنطق الاقتصادي البسيط عن تفسيره.إن مثل هذه الشعوب التي تعيش على أمل الرفاه من ثروتها الطبيعية كمثل الابن الذي يعيش على أمل الغنى من إرث والده العجوز البخيل، فهو يعيش في حال بسيط لبخل والده ويمضي في حياته كالناس، يدخل المدارس ثم يخرج ليبحث عن عمل، ولكنه في كل ذلك ضعيف الالتزام، يده في الواجب الذي بين يديه وعينه على ثروة أبيه، وهو في حاضره لا يبذل ما ينبغي من جهد تجاه واجباته ولا يحسنها لظنه أنه قريباً لن يحتاجها وسيستغني بإرث أبيه. هذه هي الثقافة الفاشية في شعوبنا إلى حد كبير، ثقافة الخلاص القدري وليس الكسبي، حيث يهبط قدر من السماء أو يخرج من الأرض فيخلص الناس من معاناتهم، والمهدي المنتظر والبترول في هذا الأمر سواء.بهذا الفهم ظل الناس يلقون اللائمة على الحكومات باعتبارها عاجزة عن إدارة هذه الثروة وايصالها لهم بينما هم يدبرون أحوالهم بأقل مجهود ريثما يأتي الفرج. وبذات الفهم فإن الحكومات تنفق من الموارد الطبيعية باعتبارها مالاً وليس باعتبارها رأسمال، فالمال يستهلك بينما رأس المال يستثمر، ولكن اختلط الأمر على الحكومات فظنت أن إخراج الثروة من الأرض هو غاية الاستثمار وأن ما أخرجته هو النقد الذي تمضي به إلى السوق. هذا ما فعلته الحكومة بالبترول وتفعله الآن بالذهب وكانت وستظل تفعله بالزراعة حتى يفتح الله على هذه البلاد بمن يدرك مفهوم الصناعة والقيمة المضافة.أقول هذا طعناً في منهج الاعتماد على الثروات الطبيعية إن وجدت فكيف أن لم توجد! الحقيقة التي ذكرتها في غير مرة هي أن السودان بلد محدود الموارد وليس غنياً بها، فباستثناء الثروة الحيوانية والتي لا يحسن استغلالها، فالسودان لا يصنف غنياً في أي مورد من الموارد الطبيعية الأساسية، لا في المحروقات ولا في المعادن ولا في المياه العذبة، وكل ما يقال عن أن هذه الأرض تحوي كنوزاً كبيرة هو إما مبالغة أو خرافة. ولكي ندرك خطورة استمرار هذه الضلالة على مستقبل بلادنا نسترجع مثال الابن الذي أضاع عمره دون أن يحسن التعلم أو العمل طمعاً في الاستغناء بثروة أبيه، ثم اكتشف أن أباه فقير معدم، هذا هو حال السودانيين اليوم، غفلة تستدعي عاجل الانتباه.