29 أكتوبر 2025
تسجيلمحددات مسار الحرب وخيارات جبهة المقاومة: كما كانت جبهة محاربة الفرنسيين في مصر مكونة من ثلاثة عناصر (المصريين، الأتراك، المماليك)، فإن جبهة محاربة الجنجويد ومن ورائهم الخارج في السودان الآن مكونة من عموم السودانيين والإسلاميين والجيش. مسار الحرب في السودان سيحدده اتفاق هذه المكونات على خيارها، فما هي خيارات هذه الجبهة؟ ذكرت في مقال حريق الخرطوم (13 و19 يوليو، الجزيرة نت) أن الجيش ظل يعاني لسنوات من مشكلة المشاة وهي مشكلة لا تنحصر على الجيش السوداني وقد عالجتها بعض الدول بتطوير قدراتها التقنية وبعضها بنظام جيوش الاحتياط وبعضها بغير ذلك. نحن في السودان استعنّا بالدفاع الشعبي واستنهاض عقيدة الجهاد في حرب الجنوب عندما جاء الإسلاميون إلى الحكم، ثم كونت الإنقاذ مليشيا الدعم السريع لمواجهة تمرد دارفور. الواقع الآن هو أن الجيش لا يستطيع مكافأة عدد الجنجويد ولا حماسهم للقتال كمرتزقة يقاتلون للغنيمة بينما جنود الجيش موظفو دولة لا تكفي رواتبهم الكفاف. ما الذي يدفع هذا للاستبسال في القتال؟ خيار الجيش هو في الاستنفار والتعبئة العامة. هذا يضع عقيدة السودانيين في الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم في مواجهة عقيدة اللصوص، والأولى تغلب. ولكن الحماس وحده لا يحل الإشكال، فالجيش سيحتاج لمن يقاتل مهاجماً الجنجويد حيث استقروا ولن ينفع أن يكتفي بالدفاع عما تبقى في أيديهم من السودان. هذا يجعل من عقيدة الجهاد والخبرة القتالية عند الإسلاميين ميزة كبيرة في كسب الحرب. وهنا تأتي مشكلة الجيش الثانية. فالبرهان (وآخرون)، وكما كان حال مراد بك مع الأتراك، يخشى أن يستعيد الإسلاميون القوة في البلاد للحد الذي دفعه لفتح البلاد بكاملها للجنجويد طمعاً أن يسحقوا الإسلاميين دون نظر إلى حال السودانيين في هذا الصراع. والذي حصل هو أن الجنجويد سعوا لسحق الجميع دون فرز بما فيهم البرهان نفسه، ولكنه رغم ذلك لم ييأس من عقد الصفقة. هنا يجد الجيش أنه تحت قيادة تضع في يديه الأغلال قبل أن تدفع به إلى المعركة ولعل البرهان يرسل الحطب إلى الجنجويد ليحرقوا الخرطوم حتى يستقر عرشه على رمادها! إن التزم العسكريون بطاعة البرهان قادهم إلى الهزيمة، وأغلبهم يعلم ذلك، فلم أبقوا عليه حتى الآن؟ كل الحجج التي سيقت في الصبر على البرهان لا ترجح الثمن الذي ندفعه كسودانيين من هذا الصبر، أيعقل أن يكون الإخلال بتراتبية الجيش أو التهمة بموالاة الإسلاميين أو ادعاء أن عزل البرهان فيه تحقيق هدف المليشيا أو ما سواها من حجج أفدح ثمناً من الانصياع لقائد متخاذل في معركة وجود! لا شيء ينبغي أن يعدل بقاء الوطن، ولكن يبدو أن العسكريين أساؤوا تقدير أمر البرهان كما أساؤوا تقدير مشكلة الدعم السريع من قبل حتى دخل عليهم الجنجويد من كل حدب ينسلون. وإن لم يعزموا أمرهم ويعزلوه فوراً، ولو من باب الحيطة إن تمسكوا بحسن الظن فيه، فسينتهي بنا وبهم الأمر كما انتهى بالمصريين الذين نقض كليبر عهده معهم بعد أن وعدهم بالعفو فنكَّل بهم. قدرة الإسلاميين على تغيير قيادة الجيش محل شك وهم بلا شك عاجزون عن محاربة الجنجويد وحدهم، ولكن إن كان في إمكانهم الضغط من أجل تغيير القيادة في الجيش أو قيادة المقاومة الشعبية وأحجموا خشية أن يقول الناس إنهم يطمعون في استعادة السلطة أو أن يعود الحصار الدولي على السودان فقد أساؤوا التقدير كالعسكريين. أخصب سنين الإنقاذ كانت تحت هذا الحصار المزعوم، ولو ظنّ الإسلاميون أن السودانيين يفضلون حكم الجنجويد على حكمهم فقد بلغ بهم الانهزام حداً بعيدا. الميزان الذي يقيس عليه العسكريون والإسلاميون الأمور الآن هو ذات الميزان الذي قاسوا به بينما البرهان وحميدتي يتعهدان المليشيا بالرعاية والانتشار كالسرطان في جسد السودان ظنّاً أن مقاليد الأمور ما زالت بأيديهم (العسكر والإسلاميون) وأن الصبر خير من التغيير، حتى استفحل أمر المليشيا ودفع السودانيون ثمن التردد وسوء التقدير. والوزن الصحيح للأمور الآن هو أن كل من بيده أن يسهم في النصر فعليه أن يبذل كل وسعه إلا إن كان في ذلك خطر أكبر من زوال السودان، وهيهات! عزل البرهان وأركان حربه من قبل قادة الوحدات والحاميات خير من انقلاب يشق الجيش. وشق الجيش خير من هزيمة مؤكدة تأتي بالجنجويد. بل إن تجاوز الجيش بالكلية والنهوض إلى مقاومة شعبية شاملة خير من حكم الجنجويد، وهذا خيار السودانيين إن تخاذل الجيش. أما الإسلاميون، فهم بعض قومهم غير أنهم أكثر خبرة ودربة على القتال، وإن حلفاً به جموع السودانيين الناهضين للدفاع عن أنفسهم وبلادهم وكتائب الإسلاميين وكل أو بعض الجيش لهو حلف جدير بالنصر! إن اتفقت مكونات جبهة المقاومة على طريق المقاومة حتى النصر، يبقى عليهم الاتفاق على أن كل حدود الصبر قد تجاوزها الحال، وهذا بيّن في النفرة الشعبية التي انتظمت صفوف السودانيين بعد سقوط مدني التي كانت حد صبرهم في إيكال الأمر إلى الجيش، وما صبر العسكريين على البرهان إلا تأخرٌ عن واجب الساعة. فإذا انتظمت هذه الجبهة في صف واحد بات ممكناً ترتيب أحلاف خارجية تتفق مع السودانيين على ضرورة هزيمة الجنجويد وإعادة السودان إلى الجادة، ولن يعوز السودانيون حليفاً ساءه تمدد الإمارات في أرضهم. ختاماً، فإن كتب التاريخ قد سجَّلت أعمال مراد بك المملوكي إبان الغزو الفرنسي في مصر كمثال للخيانات المخزية كما كان شأن يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح وغيرهم ممن خان قومه أو وطنه. والتاريخ الآن يُكتب عن السودان في ساعة من أقسى ساعات العسرة على أهله، فلينظر أحدنا موطن قدمه!