11 سبتمبر 2025
تسجيلقدر كبير من الغبطة سيطر علي وأنا أستمع إلى بناتي - وبعضهن تخرج من الجامعة في حين أن البعض الآخر مازال يدرس بها - وهن يثرن معي جدلا جادا وحادا ورصينا حول العملية الانتخابية الدائرة الآن في مصر. فقد رصدت على قسمات وجوههن حماسا حقيقيا للانخراط في العملية والمشاركة فيها بفعالية ودارت بيننا خلافات حول من نختار فقد كانت إحداهن وهي الكبرى حريصة على اختيار ممثلين لثوار التحرير بينما الطالبة التي تدرس اللغة الإسبانية بكلية الآداب تنزع إلى إعطاء صوتها لحزب الحرية والعدالة وتناقشني بقوة في ضرورة تحويل مصر إلى دولة إسلامية التوجه بينما أقول لها إن الإسلام لم يتضمن في أحكامه نصوصا تدعو إلى إقامة ما يسمى بالدولة الثيوقراطية ذات النزعة الدينية إنما هو يطرح المبادئ والقواعد التي تحقق مصالح العباد وفق المنظور الإسلامي بينما أبدت ابنة أخرى رغبتها في منح صوتها لحزب الوسط. لم تكن الحوارات ذات الصبغة السياسية مطروحة في منزلي أو مع أفراد أسرتي قبل الخامس والعشرين من يناير الماضي. كان ثمة بعد أو تنائي عن الولع بالسياسة رغم محاولاتي المتكررة لإدخالهم هذه الدائرة، غير أنه بعد المتابعة الحثيثة لوقائع الثورة وزيارة ميدان التحرير قبل سقوط مبارك وبعد سقوطه وهو ما حرصت عليه خاصة بالنسبة للبنتين اللتين مازالتا تدرسان بالجامعة تخلقت في البيت حالة ثورية وتفجرت رغبة حقيقية في المشاركة في الفعل الثوري. على أي حال لقد وجدت الديمقراطية طريقها إلى منزلي وباتت طرفا رئيسيا في النقاش اليومي على محدوديته من فرط انشغالي في متابعة واجباتي المهنية والتي تتطلب مني حركة يومية وانخراطا في الأحداث الوطنية والعربية على نحو يكاد يستغرق الساعات الأربع والعشرين حتى في ساعات النوم يظل المسجل مفتوحا على الأخبار من مختلف المحطات الإذاعية طوال الليل. وبالطبع فإن هذه الحالة لا تخصني أنا وأسرتي بل هي اقتحمت جل اهتمامات الشعب المصري الذي وجد نفسه وجها لوجه مع أول اختبار حقيقي للممارسة الديمقراطية بداية من الثامن والعشرين من نوفمبر الماضي موعد انطلاق أول مراحل انتخابات مجلس الشعب المصري ومرورا بالمرحلة الثانية يومي الأربعاء والخميس الماضيين وهي المرحلة التي شاركت أنا أفراد أسرتي فيها بحكم مقر إقامتنا بمحافظة الجيزة فقد خرجت الملايين في طوابير ممتدة منذ الصباح الباكر تقف منتظرة دورها في الإدلاء بأصواتها في أول عملية اقتراح حقيقية وبعيدة عن التزوير سابق التجهيز والنتائج المعدة سلفا مثلما كان يتم في أغلب العمليات الانتخابية التي جرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي حكم فيها مبارك ونجله "جمال" مصر لقد بدا الأمر لي أشبه بالتدفق إلى مراكز الاقتراع: مسنون وسيدات وفتيات فضلا عن الشبان. الكل يتسابق للإدلاء بصوته ثمة أشواق كانت مكبوتة انبثقت لتتماوج في اللجان الانتخابية المنتشرة سعيا إلى تغيير المشهد الذي ظل محكوما بإتقان من قبل مبارك وزمرته الحاكمة وهو ما تجلى في انتخابات 2010 التي جسدت بحق جبروت السلطة المستبدة المتحالفة مع سطوة المال الحرام والمستغل سعيا لإركاع الشعب وتهيئة الأجواء لتوريث الحكم. وبعد أن اقترب النهار من نهايته مساء الخميس الماضي توجهت إلى مقر مركز الاقتراع الذي عثرت على اسمي فيه بيسر من خلال استخدام التقنيات الحديثة عبر شركة الاتصالات الحكومية التي وفرت خدمة الحصول على كافة المعلومات مقابل مكالمة هاتفية لا تكلف سوى خمسين قرشا أي ما يعادل 30 درهما تقريبا أو عن طريق شبكة الإنترنت في الطريق إلى اللجنة رأيت الكثيرين عائدين منها بعد أن أدلوا بأصواتهم البهجة تتجلى في ملامحهم. رجل وزوجته وابنه يصيرون معا يتبادلون النقاش حول قوائم الأحزاب والمرشحين الفرديين. بالقرب من المركز كان كل شيء هادئا. فقد خف الزحام الذي كان مشتدا في اليوم الأول – الأربعاء الماضي وفي فترة بعد الظهر، لدى الباب ثمة جند تابعون للقوات المسلحة مهمتهم حراسة مقر المركز وهو مدرسة ابتدائية قديمة نوعا ما. لا يسمحون لأحد بالدخول إلا بعد أن يبرز بطاقته الشخصية، في الداخل ثمة من يسألك عن رقم اللجنة التي ستدلي بصوتك أمامها داخل مركز الاقتراع ثم يدلونك إليها وعلى بابها يقف شخص يتيقن من بطاقتك الشخصية ثم يسمح لك بأدب جم بالدخول إلى حيث يجلس موظفان أحدهما يطلب منك التوقيع أمام اسمك ومن الأفضل بالطبع أن تخطرهما برقمك الانتخابي الذي من الضروري أن تحصل عليه قبل دخول اللجنة لتيسير مهمتك ثم يعطيك أحدهما بطاقة الاقتراع الخاصة بقوائم الأحزاب وهي صغيرة نسبيا والآخر يعطيك بطاقة الاقتراع الأكبر والتي تحتوي أسماء المرشحين من الفردي. لم تصبني الحيرة في الأولى لكنها استحوذت علي للوهلة الأولى في التعامل مع الورقة الثانية فقد كانت أعداد المرشحين وفق النظام الفردي كبيرة ومتعددة ولكني كنت قد حددت مسبقا بعض الأسماء التي تتوافق مع توجهاتي الفكرية وهو ما صنعته مع القوائم الحزبية أيضا. لم تستغرق العملية أكثر من خمس دقائق وقبل أن أخرج طلب مني شخص أظنه رئيس اللجنة أن أصبغ سبابتي اليمنى باللون الفسفوري دلالة على قيامي بالمشاركة في التصويت وللحيلولة دون التصويت أمام مراكز اقتراع أخرى. خرجت من مركز الاقتراع ومشاعر الاطمئنان تسكنني. إذن هي الديمقراطية التي كانت تقيم في منطقة الحلم وصرنا الآن نعانقها وجها لوجه. تتداخل مع مكوناتنا ومواسمنا وفصول أيامنا تشرق شمسها في نهاراتنا وتورق أقمارها بليلنا الذي طال ثم غادرتنا عتمته في الخامس والعشرين من يناير. لقد جاءت الديمقراطية لتزيح عن كاهلنا سنوات القهر والغياب للحرية تحت سطوة مبارك وعزمي والشريف والشاذلي وسرور وأحمد عز الذي تجرأ على ممارسة رزيلة التزوير علنا دون أن يسكته أحد أو يتحرك له ضمير بعد أن باعه في سوق النخاسة التابع لمنظومة السلطة والمال، هزت رياح الديمقراطية أيامنا الراكدة وصيرورتنا المتوقفة فتدفقت دماؤها في أجسادنا التي كانت هزيلة فسكنتها الحيوية والتفاؤل، غير أن الديمقراطية في حاجة إلى العدل حتى تكتمل معادلة الثورة وإذا كان ثمة جزء منها قد بدا يسري في أنحاء الوطن فإن العدل مازال مفقودا والعدل الذي أقصده ليس بالمفهوم القانوني رغم أهميته وإنما العدل بمفهومه الاجتماعي والاقتصادي الذي يحقق مطالب الشعب صاحب الثورة الحقيقي حتى يتخلص من التهميش والجوع والفقر والمرض وهي العناوين الرئيسية التي سادت في زمن حكم مبارك الذي انحاز بقوة إلى الأغنياء وطبقة رجال الأعمال وتناسى الفقراء بل لم يتورع عن القذف بهم إلى صناديق القمامة بحثا عن شيء يسد الجوع. السطر الأخير: قبضت على عنق الزجاجة ما طلتني المدينة أورقت الخريف أشجارها لامست الجوع اجتاحني طوفان من نهم ارتديت عباءة الشعر لم أرتو من براءة عينيها كابدت الغياب سافر الحلم دونما إياب بحثت عن الزاد لم يكن لي سوى اغتراب واغتراب هي أجنحة نافرة أم ريح تعصف بالفؤاد مسافة بلا توهج بقايا هشيم ورماد عانقت وجدها المقيم المتناثر في البلاد أخذتني الصيحة الأخيرة ألهبني سيف الجلاد في المدينة نهر دونما ضفاف ذهاب بلا عودة رحيق بلا ارتشاف