21 سبتمبر 2025
تسجيلالمثير في وثائق موقع ويكيليكس ليس فقط مضمونها الذي فضح بعض أوجه السياسة والسياسيين في العالم، ولكن أيضا كيفية تعامل الإعلام العربي معها. صحيح أنها كشفت عن عمق واتساع الفجوة بين الأنظمة والشعوب في المنطقة وأسهمت في تعرية مواقف بعض السياسيين الذين يقولون في الغرف المغلقة كلاما ويقولون للناس كلاما آخر، إلا أن الإعلام في كل دولة أخذ راحته بصورة نسبية في الكلام عن الدول الأخرى. أما في داخل الدولة ذاتها، فإن الإعلام سكت عن بعض الوثائق ورحب بنشر وثائق أخرى، بعد اللعب في صياغتها بحيث تضم إلى مواكب التهليل وخطاب تمجيد الأوضاع القائمة. أدري أن الوثائق المسربة لا ترسم كل الصورة المودعة في الخزائن الأمريكية لأن السرية في الأرشيف الأمريكي درجات ثلاث في الأغلب، وما ظهر إلى العلن حتى الآن يخص وثائق من الدرجة الثالثة، الأمر الذي يعني أن هناك ما هو «أعظم» منها ما يندرج ضمن الدرجتين الثانية والأولى، إلا أن ما وقع بين أيدينا لا يمكن التقليل من أهميته الكاشفة. صحيح أن ما خص إسرائيل منها لا يزال مسكوتا عليه، أو سرب منه النزر اليسير، إلا أن ما نشر عن العالم العربي ومصر بوجه أخص يستحق أن يقرأ بعناية، لم تتوافر حتى الوقت الراهن على الأقل. وفيما يتعلق بمصر قيل لي: إن فريقا من الناشطين يعملون على جمع أشتاتها وترجمتها، وأرجو ألا ننتظر طويلا حتى نرى ثمرة ذلك الجهد، الذي أتصور وأرجو ألا تمتد إليه يد الرقابة وتعليمات الحظر. لقد ذكرت صحيفة «الجارديان البريطانية» أن نصيب مصر من تلك الوثائق 2.700 وثيقة. ورغم أن بعضا منها تحدثت عنه صحفنا المصرية واعتبرته في بعض الأحيان شهادة براءة للسياسة المصرية، وشهادة تفوق في أحيان أخرى، فإن معلوماتي أن ثمة توجيها يحظر نشر عدد غير قليل مما تم تسريبه ونشره في الخارج، خصوصا تلك التي تعلقت بمستقبل الحكم وخلفيات وتفاعلات قضية التوريث (وهي بالمناسبة تؤيد ما نعرفه وما يتهامس به كثيرون في مجالسهم الخاصة)، أو تلك التي تتصل بالمسائل العسكرية والأمنية. إزاء ذلك فإن المرء لا يملك إلا أن يتوخى قدرا كبيرا من الحذر في الحديث عما ينشر هناك من وثائق وما يحجب عندنا، للأسباب التي لا تخفى على فطنتك. وهذا الحذر دفعني إلى غض الطرف عن بعض الوثائق، ولم يمنعني من التوقف عند وثيقة وجدتها في منزلة بين المنزلتين. فهي تتحدث عن المثقفين المصريين وليس عن صُنَّاع القرار وبيت الحكم، وتلك منطقة آمنة إلا أنها تخوض في محظور الأمور الأمنية. الأمر الذي يدعونا إلى الاقتراب من الموضوع دون الإشارة إلى التفاصيل التي وردت بخصوصه، وهو ما أرجو أن يجنبني الوقوع في المحظور، ويشفع لي عند النائب العام وعند أهل الرصد والمراقبة. الوثيقة ليست خطيرة، ولكن موضوعها فقط هو الحساس في مصر على الأقل. إذ هي جماع انطباعات واستنتاجات تعلقت بالمؤسسات الأمنية، وقد استوقفني فيها أمران، أولهما حرص السفارة الأمريكية على التعرف على مستقبل الحكم في مصر. وثانيهما المصادر التي لجأ إليها دبلوماسيو السفارة في تحري هذه الأمور، ولم تخرج عن مجموعتين من المثقفين هما أساتذة العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية والجامعات الأخرى، وخبراء مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بمؤسسة الأهرام، ومن الواضح في البرقية أن الانطباعات التي تضمنتها تشكلت من خلال مناقشات مع هؤلاء الأشخاص حرص دبلوماسيو السفارة على أن يطرحوا خلالها أسئلتهم، التي منها ما يلي على سبيل المثال: ما هو مستوى كفاءة الأجهزة الأمنية في مرحلة ما يسمى بالسلام التي بدأت بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في عام 1979؟ وما موقفهم من قضية التوريث؟ وهل يمكن أن يكون تنامي دور رجال الأعمال في الحياة السياسية المصرية قصد به معادلة للنفوذ الذي تمارسه الأجهزة الأمنية؟. الاهتمام الأمريكي بهذه الأمور يفتح الباب لتساؤلات تتعلق بدوافعه ومقاصده، رغم صدوره عن أطراف يفترض أنها «صديقة»، بعض تلك التساؤلات تنصب على ما إذا كانت تلك التقارير تدخل في ضمن الاهتمام الأمريكي فحسب، أم أنها تصل إلى إسرائيل أيضا؟ أيا كان الأمر فإن تطوع بعض المثقفين المصريين بتقديم تحليلات أو تخمينات تتعلق بالمسائل الحساسة في مصر يغدو منزلقا ينبغي الانتباه إليه والحذر من الوقوع فيه.