26 أكتوبر 2025

تسجيل

قبرص بانتظار الحل المستحيل (1)

19 نوفمبر 2014

قضيت عدة أيام في جمهورية قبرص التركية التي تشغل الثلث الشمالي من جزيرة قبرص المقسمة ويسكنها ما يقرب من 300 ألف مواطن كلهم من الأتراك المسلمين باستثناء 500 يوناني أرثوذكسي وعدد قليل جدا من اليهود، تجولت خلالها في الجزيرة وقابلت عددا من المسؤولين والمثقفين وأساتذة الجامعات واستمتعت لطروحاتهم المختلفة حول المشكلة وجذورها التاريخية وأفق الحل المأمول.الحقيقة أننا في العالم العربي لا نعرف إلا القليل عن قبرص ومشاكلها رغم أهمية ما يحدث هناك، فهي تبعد96 كيلومترا عن سوريا، ولو كان هناك طريق معبد بين البلدين لما احتاج المسافر إلى أكثر ساعة من الزمان للوصول إليها، كما أنها تجاور لبنان ومصر وفلسطين، ولذلك فهي على تماس كبير مع العرب ولها حدود فعلية مع الوطن العربي، ولكن غرقنا، نحن العرب، في الكثير من المشاكل والأزمات الداخلية يبدو أنه يبعدنا عن التفكير بمشاكل الجيران، وحتى وإن كانت تؤثر علينا بشكل مباشر أو غير مباشر، وليس من دليل على ذلك من مشكلة التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط، الذي تتأثر فيه قبرص وتركيا ولبنان ومصر وسوريا وفلسطين والكيان الإسرائيلي.وقبل الخوض في الأوضاع الحالية لهذه الجزيرة المقسمة وتحليل واقعها السياسي، لا بد من إطلالة تاريخية سريعة وموجزة لقبرص، لكنني لن أذهب بعيدا في التاريخ، بل سأبدأ من القرون الوسطى عندما سيطر العثمانيون على الجزيرة عام 1571 وطردوا البنادقة منها، فقد كانت قبرص تحت حكمهم مركزا للقرصنة شرق المتوسط تهدد السفن التجارية وخاصة سفن الامبراطورية العثمانية، وبعد قرنين من الحكم العثماني، وتحديدا في عام 1777 تجاوز عدد الأتراك المسلمين 47 ألف شخص من أصل 84 ألف شخص يسكنون الجزيرة. ولم يعمد العثمانيون إلى طرد أي شخص من سكان الجزيرة.وجلب العثمانيون الاستقرار والازدهار للجزيرة، وقضوا على القرصنة التي كانت تهدد التجارة في البحر المتوسط، وخلصوا السكان من النظام الإقطاعي الذي كان يديره البنادقة وتم الاعتراف بالأسقف القبرصي كشخصية مستقلة ومنحه سلطات إدارية، وسمحوا للأرثوذكس بممارسة شعائرهم ورفعوا الاضطهاد الذي يفرضه الحكام البنادقة الكاثوليك على الأرثوذكس، لكن هذا الوئام لم يستمر طويلا فقد اتهمت السلطات العثمانية الكنيسة الأرثوذكسية القبرصية بدعم المتمردين على الحكم العثماني وأقدمت على عزل الأسقف مما زرع بذور الشقاق بين الطرفين بعد فترة طويلة من الوئام، وفي عام 1878 تنازلت الدولة العثمانية التي بدأت تضعف لبريطانيا على حق إدارة قبرص مع الاحتفاظ بسيادة الدولة العثمانية عليها ومبلغ مالي تدفعه بريطانيا واستمرار دفع أهالى قبرص الجزية ومساعدة بريطانيا الدولة العثمانية ضد أي هجوم روسي. وهو الاتفاق الذي رحب به القبارصة اليونانيون الأرثوذكس، ورأوا فيه خطوة مهمة قد تمكنهم من الانضمام لليونان، إلا أن الدولة العثمانية تنازلت عن قبرص لبريطانيا عام 1923 بموجب معاهدة لوزان حيث أعلنتها بريطانية كإحدى مستعمراتها بعد ذلك بعامين، وقد أدى ذلك إلى انخفاض عدد القبارصة الاتراك في الجزيرة، وبعد هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى وإنشاء الجمهورية التركية وإسقاط دولة الخلافة، هجر غالبية الاتراك قبرص إلى تركيا، وأصبح القبارصة اليونانيون يشكلون 80% من سكان الجزيرة، مما قلب الموازين الديموغرافية هناك. وفتح الباب أمام صراع تعيش جزيرة قبرص في ظلاله حتى الآن، وأسس لحالة من العداء والكراهية بين مكونين أساسيين عاشا مع بعضهما البعض مئات السنين.