16 سبتمبر 2025
تسجيلتذكرني أحداث العالم العربي بقصيدة للشاعر الحبيب الزناد قالها في هجاء لطيف للزعيم بورقيبة وهي تبدأ بهذه العبارة: " دخل إلى قصره فخرج من عصره" وذلك في أواخر الستينيات حين التف الرئيس بورقيبة على أكبر وزرائه والرجل الثاني في النظام آنذاك وزير الاقتصاد والمالية والتربية والتعليم ومنظم الحزب الدستوري الاشتراكي والنقابي القديم أحمد بن صالح التفاف الذئب على الشاة وأودعه السجن وحاكمه بتهمة الخيانة العظمى، وفعل نفس الفعل مع رئيس حكومته محمد مزالي بعد ذلك. ودخلت تونس في دوامة التصفيات القضائية التي أطاحت بهيبة الدولة ومصداقية النظام، ودخل بورقيبة بسببها أيضا دوامة المرض البدني والنفسي، وبدأ العد العكسي لزعيم كبير أخذ المعول بيده ليحطم وحده ما بناه على مدى ربع قرن. وكان في مطلع السبعينيات شاعر تونسي موهوب هو الحبيب الزناد يكتب قصائده المعبرة والملتزمة ومنها هذه القصيدة التي اعتبرناها أقصر قصيدة في اللغة العربية وهي تصف الزعيم بورقيبة وتقول بكل إيجاز وعمق وقوة تعبير:" دخل إلى قصره وخرج من عصره". وبالفعل فالرئيس الذي حرر تونس من الاستعمار وأسس دولتها الحديثة وحقق لها من المكاسب ما تعتز به خرج من عصره أي انقطع عن الواقع وأصبح رهينة لبطانات طامعة في السلطة أو المصالح الدنيوية العاجلة وبدأ رحلة السقوط مع التقدم في العمر وتراكم العلل وسرعة التحولات الاجتماعية في وطنه وتغير المحيط العالمي بترابط المصالح الدولية. وهذه القصيدة تجسدت بعد ذلك في أكثر من نظام مع الأسف وبخاصة في الجمهوريات العربية منذ مطلع الربيع العربي وقبلها في دول المعسكر الشيوعي المنهار من خلال التحولات التاريخية التي هزت شعوب رومانيا وبولونيا والمجر وبلغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والبلدان التي كانت منضوية تحت الوحدة اليوغسلافية المصطنعة، عندما انهار جدار برلين وأذن بالهزات العنيفة التي عصفت بدكتاتور رومانيا/ شاوشسكو وزوجته هيلينة. وهذا الطاغية الروماني شكل أبرز مثال حي للخروج من العصر والانفصال عن الواقع حين رجع برجليه من زيارة رسمية كان يؤديها إلى الصين فنزل في بوخارست ودخل قصره ومن شرفة ذلك القصر ألقى خطبته الأخيرة العصماء في آلاف الرومانيين محاولا قلب موازين التاريخ وتغيير مجرى الحضارة في حركة بائسة ويائسة، تدل على مدى استفحال الغيبوبة السياسية لدى هذا الرجل. وانتهت تلك المأساة بمهزلة المحاكمة السريعة الجائرة للرئيس /شاوشسكو وزوجته والتي أدت إلى إعدامه وإعدامها ذات ليلة صقيعية من ليالي ديسمبر 1989. وهنا لابد من أن نسجل ما وقع في تونس ومصر وبدرجة أعنف في ليبيا واليمن وسوريا من دخول الرؤساء للقصر وخروجهم من العصر. فكيف غابت عن عقول هؤلاء وهم ماسكون بكل خيوط السلطة بأن العالم تغير وبأن العيال كبرت وبأن فيسبوك نفخ في صور الأمم وأن الدعم الخارجي للاستبداد جف منذ انفجر الاتحاد السوفيتي وانتهت الحرب الباردة وأعيد رسم خريطة الدنيا وانتصر العالم الحر من دون حرب واشتاقت الشعوب إلى الحرية. وقد بدأ الخروج من العصر بالسقوط المدوي لصدام حسين مهما يكن تقييمنا لحكمه،و للكارثة التي حلت بالعراق معه ومن بعد إسقاطه، فإن الموضوعية في قراءة التاريخ الحديث تقتضي منا أن نسجل غياب معطيات الواقع عن ذهنه وأذهان مساعديه. وهو لم يستخلص الدرس القاسي من مأساة احتلال الكويت والحرب الطويلة الدموية مع إيران، ولم يفهم بأن الزمن دار دورته وللزمن نواميس، فامتثل في آخر أيام حكمه للإملاءات ودمر صواريخه بنفسه ولم يتوقع ما كان يتوقعه الجميع، ولم يستمع لنصائح الناصحين ولا لإنذار المنذرين وبالفعل شكل أدق ترجمة لقصيدة الشاعر فدخل إلى قصره وخرج من عصره. وبشكل مختلف كان الأمر بالنسبة للجنرال / بينوشي دكتاتور التشيلي الذي قتل الرئيس المنتخب /جوزيف ألندي وحصن نفسه بالدستور وهرب ملايين الدولارات لبنوك أمريكا وأخيرا جرجر للمحاكم الدولية لتقتص للآلاف من الضحايا ومات ميتة المقت. وقبله كان مصير ميلوسفتش الذي استحل لحم المسلمين من أبناء وطنه فانتهى أمره إلى سوء المصير لأنه لم يحسب حساب التاريخ وهزاته المدمرة. وقائمة الداخلين للقصر والخارجين من العصر طويلة خلال النصف قرن الماضي، وأسباب السقوط متشابهة في جملتها تتلخص في صم الآذان وتغميض العيون عن التغيرات الجذرية التي تطرأ على الشعوب ومحيطها العالمي فتكون القطيعة الكارثية عن الواقع ويمضي صاحب الشأن سعيدا فرحا مرحا على إيقاع مدائح المنافقين والمخادعين من بطانات السوء التي لا تقول له إلا ما يود سماعه وما يريحه من تعب التفكير ووجع الرأس ومواجهة الحقيقة، عادة على إيقاع بالروح والدم نفديك، وجاء يوم على بورقيبة وعلى السادات وعلى ولد الطايع وصدام وابن علي ومبارك والقذافي ولم يجدوا واحدا يفديهم حتى بقطرة ماء! نواميس التاريخ تعلمنا بأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج مهما تأخر الموعد. والمجد لكل من خدم الشعوب ولم يستخدمها وكان لأمته الحامي والمؤتمن. طوبى للعادلين الذين أدركوا حكمة العلامة ابن خلدون بأن العدل أساس العمران وأن الظلم مؤذن بانهيار البنيان وأن القهر عدو الإنسان.