27 سبتمبر 2025
تسجيلكنت أتجول في 15 يوليو الماضي في شارع (سان ميشال) وفي شارع (سان جرمان) وأنزل الحي اللاتيني الذي خلده المرحوم طه حسين وخصص له الأديب اللبناني رحمه الله سهيل ادريس روايته المعروفة بنفس الاسم وتأخذني باريس كعهدي بها في رحلتي مع الكتب والمجلات واللوحات وأنغام الموسيقى وهذه فرنسا التي أحبها وتعلمنا ثقافتها قبل أن يستشري فيها تيار العنصرية وهو عابر وخاسر واكتشف فجأة بأن هذا اليوم ليس كالأيام الأخرى بالنسبة للفرنسيين فهو يوم الذكرى التسعمائة وثلاث وعشرين سنة لدخول جيوش الحملة الصليبية الأولى لبيت المقدس عام 1099م واكتشف كذلك أنني استحي من نفسي لأني نسيت ويقل خجلي أو يزيد حين أعلم بأن العالم الاسلامي كله أصيب بفقدان الذاكرة فلا منظمة التعاون الاسلامي أقامت للذكرى ندوة ولا احدى جامعاتنا ولا المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة نظمت مؤتمرا ولا ناشر مسلماً أصدر كتابا ولم أر حتى مجلة ثقافية مسلمة خصت هذا الحدث الجلل بعدد خاص ولا فضائية عربية أحيت الذكرى. لكن الذي أراه في باريس في هذا اليوم عكس الغفوة العربية الاسلامية تماما: مجلة (هستوريا) خصصت عددها للذكرى وقدمت الاحداث التاريخية بقراءتها وكذلك مجلة (دراسات مسيحية) ومجلة (ملفات التاريخ) كل سردياتها تفتخر باقتحام الصليبيين للقدس.. جاء يوم 15 يوليو 1099 بعد حصار ضربه الصليبيون بقيادة حاكم منطقة لورين الفرنسية (جود فروا دوبويون) على بيت المقدس وكانت أولى القبلتين وثالث الحرمين تؤوي أهلها المسلمين وقلة من اليهود محتمين بلواء الاسلام وكانت عاصمة فكرية تعج بالتسامح وتحمل عبقرية الشرق الخالدة حيث جمعت الأديان السماوية في رحابها وحولها بتلك الروح التي تركتها فيها العهدة العمرية (نسبة الى الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه). حاصر الصليبيون الهمج مدينة القدس شهرين كاملين حتى تمكن أحد قادتهم (رايمون دوسان جيل) من أخذ احدى قلاعها وتسريب كتيبة من جيشه داخل أسوار المدينة المقدسة ثم فتحت أبوابها وأعلن (جود فرواد دوبويون) بأن القدس مدينة مفتوحة وبأن دماء المسلمين رجالا ونساء وأطفالاً مهدورة وجرت مذبحة رهيبة ووحشية من أفظع مذابح التاريخ، حتى ان مؤرخي الصليبيين أنفسهم وصفوا تلك الأيام الثلاثة 15 و16 و17 يوليو 1099 بأنها أحلك أيام شهدتها الحروب الصليبية وقالت المؤرخة ريجين برنود ان الوحشية الصليبية في قتل المسلمين واليهود خلال تلك الأيام الثلاثة لم تضاهها أية وحشية. كانت أياما من الرعب والارهاب والدماء أما مؤرخو الاسلام فقد اتفقوا على ان شوارع القدس كانت أنهارا من الدماء تبلغ الركبة وحتى صحيفة (الفيجارو) تساءلت في مقالها: كيف نفهم هذه الوحشية البربرية من رجال حملوا الصليب وحركتهم في الأصل نوازع دينية؟ وقبل أربع سنوات من ذلك اليوم المشؤوم وفي عام 1095 انطلقت الحملات الصليبية بعد خطاب ألقاه البابا (يوربان الثاني) في كاتدرائية (كليرمون) بفرنسا لحث ملوك أوروبا المسيحيين على اعداد العدة لغزو المشرق الاسلامي في عقر داره بحجة (تخليص أكفان السيد المسيح من أيدي المسلمين) وكانت مدينة بيت المقدس منذ عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في أيدي المسلمين وكان المسلمون يسمحون بممارسة المسيحيين واليهود لشعائرهم، وكانت كنيسة روما تغار من تعاظم كنيسة القسطنطينية وتود تحجيمها ولذلك أصابت المذابح كذلك المسيحيين الشرقيين الأرثوذكس بنفس الفظاعة التي مورست ضد المسلمين واليهود. ويمر قرنان من 1095 الى 1271 وخلالهما يستعيد صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس بعد تسعين عاما من نشأة الممالك الصليبية فيها ويغلق ملف الحروب الصليبية بموت القديس لويس التاسع ملك فرنسا في قرطاج بتونس عام 1271 ويفتح محمد الفاتح معقل المسيحية الشرقية القسطنطينية عام 1453 وتتواصل الخلافة الاسلامية الى يوم 24 مارس 1924 اي منذ حوالي قرن حين تآمر يهود الدونمة وجماعة الترقي العلمانية الطورانية التركية على الخلافة فتسقط ليتقاسم الصليبيون الجدد تركة الرجل المريض! ليتنا نحن أحيينا تلك الذكرى لنؤكد للرأي العام العالمي أن المذابح في القدس ما تزال مستمرة ونحن في 2022 بأيدي أحفاد اليهود الذين أبادهم الصليبيون عام 1099 ولله الأمر من قبل ومن بعد!