08 نوفمبر 2025
تسجيلهناك كتاب وشعراء وفنانون رحلوا عن عالمنا وهم في ذروة شبابهم، ومن هؤلاء أسمهان وبدر شاكر السياب وأمل دنقل، وهناك آخرون عاشوا طويلا، لدرجة أن منهم من كان يطل خلال حياته من شرفة الثمانين أو التسعين، ومن هؤلاء فدوى طوقان ومحمد مهدي الجواهري ونجيب محفوظ، لكن القضية الجوهرية التي ينبغي أن نركز عليها – في تقديري – لا تتعلق بما قدر لكل واحد من هؤلاء أن يحياه، وإنما بما استطاعوا جميعا أن ينجزوه وأن يحققوه خلال سنوات الحياة، بصرف النظر عما إذا كانت حياة قصيرة أو طويلة، لأن الرصيد الذي يبقى - وقد يتجدد على امتداد الأجيال - يتمثل في الثروة الأدبية أو الفنية التي يبدعها الكاتب أو الفنان طيلة سنوات حياته، ويخلفها وراءه بعد غيابه النهائي عن الحياة والأحياء. ثلاثة شعراء من جيل عربي واحد، قدر لهم أن يرحلوا عن عالمنا وهم في ذروة شبابهم، وبالتالي لم يقدر لأي شاعر منهم أن يجمع قصائده بنفسه، وأن يقوم بتبويبها وترتيبها في ديوان يضمها ويحتضنها بين صفحاته، وهكذا قام آخرون بهذه المهمة، نيابة عمن رحلوا، ووفاء لذكراهم، وحرصا على تراثهم الشعري الذي أبدعوه. هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين رحلوا في ذروة شبابهم هم – وفقا لأسبقية ميلاد كل منهم – محمد عبدالمعطي الهمشري وأبو القاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير. الهمشري ولد في مصر سنة 1908 ورحل عن عالمنا يوم 14 ديسمبر 1938عن ثلاثين سنة. والشابي ولد في تونس يوم 24 فبراير 1909 ورحل عن عالمنا يوم 9 أكتوبر1934عن خمس وعشرين سنة وقد صدرت الطبعة الأولى من ديوانه أغاني الحياة سنة 1955 حيث نشرته دار الكتب الشرقية، وتم طبعه في دار مصر للطباعة بالقاهرة. أما التيجاني فقد ولد في السودان سنة 1910 في أغلب المراجع، وهناك من يقول إنه ولد سنة 1912 وقد رحل عن عالمنا سنة 1937عن سبع وعشرين سنة. وحين راجعت كتابا في مكتبتي بعنوان التجاني يوسف بشير – لوحة وإطار لمؤلفه أحمد محمد البدوي، وجدته يذكر تاريخ رحيل التيجاني بشكل دقيق وهو يوم الأربعاء 28 يوليو 1937 وقد صدر هذا الكتاب سنة 1980 وهو مطبوع في المطبعة الفنية للطبع والنشر والتجليد بالقاهرة، وقد صدر للتيجاني ديوان إشراقة – الطبعة الثانية سنة 1949عن المطبعة الوطنية بالخرطوم، أما الطبعة الأولى منه فإني لم أستطع حتى الآن تحديد تاريخ صدورها، وعلى أي حال فإني لاحظت أن كثيرين من أدباء السودان يكتبون اسم التيجاني دون حرف الياء أي أنهم يكتبونه التجاني وهناك آخرون منهم يكتبونه كما نكتبه نحن خارج السودان بالياء! إذا كان لم يقدر لكل شاعر من هؤلاء أن يجمع قصائده بنفسه، فإن أحد معاصريهم ومحبيهم - وهو الأديب محمد فهمي - قد تكفل بمهمة اختيار باقة شعرية من إبداعات كل منهم، ثم أصدرها في كتاب بعنوان الروائع لشعراء الجيل، وقد صدر هذا الكتاب سنة 1945 ولكن هل هناك ما يجمع بين هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين ينتمون لثلاث دول عربية في قارة إفريقيا؟ بالطبع فإن هناك ما يجمع بينهم، فهم ينتمون لجيل شعري عربي واحد، يتمثل في جماعة أبولو الشعرية، التي يتسم شعراؤها بغلبة الرومانسية الرقيقة والحزينة على أرواحهم وعلى إبداعاتهم الشعرية. وهكذا عاش كل شاعر من هؤلاء حياته كالفراشة الحائرة التي تنتقل من غصن إلى غصن، عساها أن تجد الزهرة المنشودة، وكلما توهم أنه قد وجد تلك الزهرة كانت الهوة العميقة ما بين المثال وبين الواقع تبرز له.. ولقد كانت تلك الهوة تفصل ما بين المثال الذي خلقته تصورات شاعر مثالي للمرأة التي ينشدها بكل ما يخلع عليها من صفات ملائكية تجعلها دوماً مرفرفة في محرابها العلوي بعيداً عن البشر الفانين، وبين الواقع الذي تتمخض عنه الحياة بكل ما فيها من نقائص بشرية. يقول الهمشري، مناجيا حبيبته في قصيدته الرقيقة نداء الفجر: أنت فجر يشع في ظلماتي يكشف السحر في مروج حياتي فتغني فيها ملائكة الرحــمة أنشودة الخلود الآتي! أنت سحر يبدو وراء خيالي أنت نور يرف في مشكاتي وعيون فجرية تتجلى لتنير الكئيب من ليلاتي! شاء الشعراء الثلاثة أن يكونوا أحبابا محبوبين خلال حياتهم، لكنهم رحلوا عن عالمنا وهم في ذروة شبابهم، وهكذا جمع بينهم الشوق المتعطش للحب، كما جمع بينهم مفرق الجماعات وهادم اللذات، وتبقت لنا من بعد غيابهم باقات لا تزال نضرة من القصائد الرقيقة العذبة.