16 سبتمبر 2025

تسجيل

تسعة قرون على مذبحة القدس

19 يوليو 2024

كنت أتجول يوم 15 يوليو من السنة الماضية في شارع (سان ميشال) وفي شارع (سان جرمان) في باريس وأنزل الحي اللاتيني الذي قضيت فيه سنوات رائعة من الدراسة في جامعة السربون وهو الحي الذي خلده المرحوم طه حسين وخصص له الأديب اللبناني الصديق سهيل إدريس رحمه الله روايته المعروفة بنفس الاسم. وتأخذني باريس كعهدي بها في رحلتي مع الكتب والمجلات واللوحات وأنغام الموسيقى وينهمر مطر خفيف دافئ على صفحة نهر السين وأكتشف فجأة بأن هذا اليوم ليس كالأيام الأخرى بالنسبة للفرنسيين فهو يوم الذكرى التسعمائة ونيف لدخول جيوش الحملة الصليبية الأولى لبيت المقدس وأكتشف كذلك أنني أستحي من نفسي لأني نسيت ويقل خجلي أو يزيد حين أعلم بأن العالم الإسلامي كله أصيب بفقدان الذاكرة خاصة في عامي 2023 و2024 حيث نشهد على حرب إبادة لغزة وهي حرب لا بد أن تذكرنا بما وقع للقدس الشريف عام 1099 فلا منظمة الاتحاد الإسلامي أقامت للذكرى ندوة ولا إحدى جامعاتنا ولا المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة نظمت مؤتمرا ولا ناشر مسلم أصدر كتابا ولم أرَ حتى مجلة ثقافية مسلمة خصت هذا الحدث الجلل بعدد خاص ولا فضائية عربية أحيت الذكرى لكن الذي أراه في باريس في هذا اليوم عكس الغفلة العربية الإسلامية تماما: مجلة (هستوريا) خصصت عددها للذكرى وقدمت الأحداث التاريخية بقراءتها وكذلك مجلة (دراسات مسيحية) ومجلة (ملفات التاريخ) وكذلك صحيفة (الفيجارو) في عددها الصادر يوم الخميس تحت عنوان: يوم 15 يوليو 1099 ــ منذ تسعمائة عام ونيف اقتحم الصليبيون القدس.. جاء يوم 15 يوليو 1099 بعد حصار ضربه الصليبيون بقيادة حاكم منطقة لورين الفرنسية (جود فروا دوبويون) على بيت المقدس وكانت أولى القبلتين وثالث الحرمين تؤوي أهلها المسلمين وقلة من اليهود محتمين بلواء الإسلام وكانت عاصمة فكرية تعج بالتسامح وتحمل عبقرية الشرق الخالدة حيث جمعت الأديان السماوية في رحابها وحولها بتلك الروح التي تركتها فيها العهدة العمرية (نسبة إلى الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه). حاصر الصليبيون الهمج مدينة القدس شهرين كاملين حتى تمكن أحد قادتهم (رايمون دوسان جيل) من أخذ إحدى قلاعها وتسريب كتيبة من جيشه داخل أسوار المدينة المقدسة ثم فتحت أبوابها وأعلن (جود فرواد دوبويون) بأن القدس مدينة مفتوحة وبأن دماء المسلمين رجالا ونساء وأطفالاً مهدورة كما هو الحال الكارثي اليوم وجرت مذبحة رهيبة ووحشية من أفظع مذابح التاريخ حتى أن مؤرخي الصليبيين أنفسهم وصفوا تلك الأيام الثلاثة 15 و16 و17 يوليو 1099 بأنها أحلك أيام شهدتها الحروب الصليبية وقالت المؤرخة (ريجين برنود) إن الوحشية الصليبية في قتل المسلمين واليهود خلال تلك الأيام الثلاثة لم تضاهها أية وحشية كانت أياما من الرعب والإرهاب والدماء. أما مؤرخو الإسلام فقد اتفقوا على أن شوارع القدس كانت أنهارا من الدماء تبلغ الركبة وحتى صحيفة (الفيجارو) تساءلت في مقالها: كيف نفهم هذه الوحشية البربرية من رجال حملوا الصليب وحركتهم في الأصل نوازع دينية؟ وقبل أربع سنوات من ذلك اليوم المشؤوم وفي عام 1095 انطلقت الحملات الصليبية بعد خطاب ألقاه البابا يوربان الثاني في كاتدرائية (كليرمون) بفرنسا لحث ملوك أوروبا المسيحيين على إعداد العدة لغزو المشرق الإسلامي في عقر داره بحجة (تخليص أكفان السيد المسيح من أيدي المسلمين) وكانت مدينة بيت المقدس منذ عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في أيدي المسلمين وكان المسلمون يسمحون بممارسة المسيحيين واليهود لشعائرهم وكانت كنيسة روما تغار من تعاظم كنيسة القسطنطينية وتود تحجيمها ولذلك أصابت المذابح كذلك المسيحيين الشرقيين الأرثوذكس بنفس الفظاعة التي مورست ضد المسلمين واليهود. ويمر قرنان من 1095 إلى 1271 وخلالهما يستعيد صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس بعد تسعين عاما من نشأة الممالك الصليبية فيها ويغلق ملف الحروب الصليبية بموت القديس لويس التاسع ملك فرنسا في قرطاج بتونس عام 1271 ويفتح محمد الفاتح معقل المسيحية الشرقية القسطنطينية عام 1453 وتتواصل الخلافة الإسلامية إلى يوم 24 مارس 1924 أي منذ قرن حين يتآمر يهود الدونمة وجماعة الترقي العلمانية الطورانية التركية على الخلافة فتسقط ليتقاسم الصليبيون الجدد تركة الرجل المريض نفس رجل اليوم الهزيل قبل أن تهب حركة الطوفان الإسلامية لتغير الموازين وتقلب المعادلات وترتسم ملامح مصير أفضل للمسلمين.