11 سبتمبر 2025

تسجيل

«عصور الظلام في الإسلام».. كيف تشكل عقلنا الحديث؟ (2)

19 يوليو 2023

أسئلة كثيرة تتوالى وتتوالد على طريق الإجابة عن أسئلة سابقة طرحتها لفهم ماضينا ومعرفة حاضر هويتنا واستشراف مستقبلنا. وللإجابة عن كل تلك الأسئلة سأستخدم منهج الاستقراء وأحيانا الاستنباط للمواقف التاريخية في مسارنا نحن العرب المسلمين وفي المسار الأوروبي أيضا، وسأنتقل بين الحقب التاريخية في الجانبين ذهابا وإيابا، أحيانا، لتشكيل صورة واضحة، قدر الإمكان، لكيفية تشكل عقلنا الحديث، وكيف تأثر سلبيا بـ «العقل الغربي»، ومآلات ذلك. هل هناك أمة عربية أو إسلامية؟ فكرة قتلت بحثا من قبل، وأفتى البعض قديما منذ الأفغاني ومحمد عبده بوجودها، وحديثا رأى آخرون منهم د. يوسف القرضاوي، باستمرار وجودها، ورأى آخرون أنها تلاشت وانتهت. لكن أحدث الآراء المعتبرة بشأنها مضى عليه زمن طويل. ومع كثرة وتسارع المتغيرات في السنوات الأخيرة، تظهر الحاجة لإعادة قراءة المشهد بنظرة جديدة في ضوء ما أشرت إليه سابقا من أن الفكر الغربي، امتُدِح طويلا بما لا يستحق، وضرورة إعادة النظر في منتجاته الفكرية كلها بما في ذلك «نظرياته»، وحتى في مفكريه ومن دافعوا عن فكره. هنا أتفق جزئيا مع من قالوا بأن معنى الأمة لدينا تبدد منذ زمن. وأختلف جزئيا مع من قالوا بوجود أمة عربية أو إسلامية. فأقول إنه لم تكن هناك في يوم من الأيام «أمة عربية»، فهذه فكرة ظهرت وسرعان ما تلاشت لأسباب سنعود إليها لاحقا. أما الأمة الإسلامية فهي تبدو بالنسبة لي كراكب سفينة تبحر من ميناء وكلما أوغلت في البحر تلاشت ملامح ذلك الميناء شيئا فشيئا لكن سرعتها لا تكاد تكون ثابتة فأحيانا تسرع وأحيانا تبطئ وربما عاكستها الريح فجعلتها تعود القهقرى قليلا قبل أن تستأنف إبحارها بعيدا عن الميناء، حتى لا تكاد تظهر ملامحه. هل هناك عقل عربي وعقل مسلم؟ فكرة أخرى قتلت بحثا وتم الخلط فيها أيضا بين المعنيين، بما يستدعي ضبط المصطلح وفهم أبعاده. وأقول إن الذين قطعوا بوجود شيء اسمه عقل عربي أو بعدم وجوده تشددوا في الحالتين في أمر أسيء فهمه زمنا طويلا. فلا يمكن الحديث عن «عقل عربي» قبل ظهور الإسلام لأسباب تاريخية ومنطقية. فالإسلام هو الذي منح «العربية» عقلها لأنها صارت الحاضنة الثقافية لهذا الدين، وقبله كانت شيئا آخر. ولذلك رأى مفكرون وازنون أن كل مفكر مسلم كتب بالعربية هو عربي حتى وإن اختلفت أصوله. هذا ما يؤكده في كتاب بالغ الأهمية الأمريكي الباكستاني الأصل د. قاسم خليل، وعنوانه، «الإسهام العربي في الحضارة». هنا تلتقي «العربية» مع «الإسلامية» في مفهوم واحد يجعل من الممكن الحديث عن «أمة عربية إسلامية» وعن «عقل عربي مسلم». لكن، هل هناك عقل عربي مسلم الآن؟ لقد تعرض «العقل الجمعي العربي الإسلامي» لهزات ارتجاجية عنيفة على مدى القرون وخاصة منذ غياب الإسلام في الأندلس. وأثرت تلك الهزات فيه تأثيرا سلبيا خطيرا، لدرجة أن العقل الجمعي العربي الإسلامي الوحيد الذي يمكن الحديث عنه، الآن، هو عقل رفض الأمر الواقع. أي الواقع السيئ الذي تعيشه المجتمعات المكونة للكيان العربي الإسلامي بغض النظر عما إذا كان يسمى أمة أو غير ذلك. فالذي لا شك فيه أن هناك حالة رفض بين العامة لحالة الضعف التي تعيشها مجتمعاتهم، ورغبة صادقة قد تكون معلنة مفهومة أو غامضة مكبوتة، لإحداث تغيير يعيد مجدهم الزائل، وإن غابت قدرتهم على إحداث التغيير، في غياب ممثل حقيقي فاعل لهذا الكيان. وكما كانت هناك أسباب خارجية وراء تلك الهزات، تتمثل إجمالا في «هجوم» الرأسمالية العالمية، فقد كانت هناك أسباب داخلية تسببت في تراجع الأمة. منها أنها منيت منذ القدم بمن أسميهم «الانهزاميين الأُوَلْ»، وكانت غالبيتهم من المنافقين والمندسين. أما في عصرنا الحديث فقد باتوا يضمون فريقا ضخما من «الانهزاميين الجدد» الذين أكثرهم ليسوا منافقين ولكن مضلَلَين ومستسلمين، وسوادهم الأعظم من أجيال «السطحيين»، تعلموا أم لم يتعلموا، الذين فرختهم أنظمة الحكم التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، تحت شعار ما سمته الرأسمالية العالمية «مرحلة ظهور القوميات» لتبرير خروجها الشكلي من الدول التي تحتلها، ولتبرير ظهور دول وكيانات غير شرعية، مثل الكيان الإسرائيلي. تلك القوميات التي بدأ التحضير لها منذ أواسط القرن 19 في أوروبا النائية عن الدين، لكنها جعلت الدين قومية للبعض. ما جعل البعض يذكر لك ديانته عندما تسأله عن جنسيته. بينما بدأ كثير من الانهزاميين لدينا ينسى دينه ويتحدث عن قوميته. أعود هنا لأذكر بأن العقل الأوروبي ومن ثم الغربي مر بعملية تشويه وتشتيت فكري ومن ثم عقلي في مراحل مختلفة برزت بقدوم المسيح عليه السلام، وهي قصة معروفة وما زالت ملامحها موجودة، ويضاف إليها مزيد من التشويه كل يوم. أما عندنا نحن العرب المسلمين فلم تختلف قصة تشويه الفكر لدينا كثيرا. كيف؟ بما أننا أمة عربية مسلمة فقد كان محرك هويتنا وتقدمنا دائما هو تشبع عقل الأمة بالتطبيق الصحيح للإسلام. وعندما فقدت الأمة هذه العقلية فقدت هويتها وقوة الدفع وراءها، وأذنت بهبوطها لتصبح مثل أي أمة أخرى تنطبق عليها قوانين الأيام والدول. وهي لم تدخل في مرحلة التدهور إلا كنتيجة طبيعية للحكمة الإلهية في دفع الناس بعضهم ببعض. وفي إطار هذا التدافع كانت هناك تأثيرات خارجية، تدفع باتجاه «نهاية التاريخ»، أفرزت لدينا أمراضا داخلية نزعت عنا لباس الأمة الواحدة، لترينا سوءاتنا. وللحديث صلة.