11 سبتمبر 2025

تسجيل

في الذكرى الخامسة لرحيل ناقد العربي العربي

19 يوليو 2015

قبل أسابيع قليلة مرت الذكرى الخامسة لرحيل الأكاديمي والمفكر العربي المعروف، د. محمد عابد الجابري، بعد حياة حافلة بالجهد العلمي المعرفي والفلسفي، على وجه الخصوص، وأهمها مشروعه الكبير (نقد العقل العربي) بأجزائه الأربعة، إلى جانب عشرات المؤلفات والبحوث في الشأن المعرفي الرزين، وقد لاقى د/ الجابري، حملات كبيرة من البعض، ظهر فيها في بعضها الخلاف الشخصي، أكثر من الخلاف المعرفي والموضوعي، لكن يظل الجابري قامة كبيرة، أراد البعض، أم لم يرد، فهو أحد المفكرين القلائل الذين حفروا في الصخر، ليكتبوا قضايا كبيرة، بقدر مكانة هذه الأمة وميراثها الكبير في التراث والثقافة، وبقدر اختلافي مع الجابري في بعض آرائه، لكن لا يجد المرء مناصا من احترام الرجل وتقديره، على سعة علمه وأخلاقه وتواضعه، كما عرفته وقابلته في مناسبات عدة، وكما قالها الكثيرون من الباحثين والمهتمين، الذي عرفوا د. محمد عابد الجابري، وتعايشوا معه عن قرب، لا سيما من المغرب العربي، وعندما أصدر الجابري مشروع (تفسير القرآن الكريم) ومهّد لذلك بكتاب سماه [مدخل إلى القرآن الكريم]، ثم تبعه بثلاثة أجزاء من تفسير القرآن الكريم سماه (فهم القرآن الكريم.. التفسير الواضح حسب ترتيب النزول) واجتهد الرجل في هذا التفسير وفق منجهية بعض العلماء السابقين أن القرآن يفسر نفسه بنفسه، لكن البعض قال إن تفسير الجابري لم يأت بجديد وفق هذه المنهجية، لكنه كما نعتقد كان يريد بعد تقاعده من العمل الأكاديمي أن يقدم شيئا إسلاميا يؤجر عليه رحمه الله.بعد صدور كتاب د/ محمد عابد الجابري [مدخل إلى القرآن الكريم - الجزء الأول .. في التعريف ] تعرض الجابري للكثير من الانتقادات والاتهام بسبب بعض آرائه حول جمع القرآن الكريم، عندما أشار إلى بعض الأقوال عن الزيادة أو النقصان في بعض الآيات.والواقع أن الجابري لم يقل هو بذلك، إنما عرض بعض الآراء التي ذكرت عنه من بعض المفسرين والمحدثين، وجاءت بعضها كردود على آراء بعض الغلاة أو المشركين أو غيرهم، لكنه يقول في ص (222) من الكتاب، أن كل الآراء التي قيلت في هذا الجانب "مرفوضة بإجماع المسلمين". وهذا تأكيد من د/ الجابري بأن ما قيل عن التحريف أو النقصان في القرآن، ليس له عند كل المسلمين ومذاهبهم أية قبول ومرفوض منذ العصر الأول حتى الآن. ويبقى الاختلاف في مسألة التأويل أو في القراءات السبع أو التفسير.... إلخ. وهذا ما أكد عليه في نفس هذا الكتاب بقوله ليس ثمة "أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس، منذ جمعه زمن عثمان". وهذا الكلام للدكتور محمد عابد الجابري ليس جديداً في مسألة القرآن عدم تحريف أو نقصانه، ففي كتابه: [ المسألة الثقافية ] الذي صدر منذ 15 عاماً وقاله كرد غير مباشر على مشروعات محمد أركون الملتبسة حول نقد العقل الإسلامي أو اللاهوتي كالذي عرفته أوروبا بعد عصر الأنوار على المسيحية فيقول الجابري "أما من يفكر في النقد اللاهوتي على غرار ذلك النقد اللاهوتي الذي عرفته أوروبا، فهو يجهل أو يتجاهل الفرق بين الدين الإسلامي والدين المسيحي. الدين الإسلامي له كتاب مقدس لم يلحقه تغيير ولا تحريف منذ أن جمع في عهد عثمان، وليس هناك دليل قاطع على أن نوعاً من التحريف أو البتر أو التغيير قد حدث في فترة ما بين نزول القرآن وجمعه، لقد كانت هناك اتهامات متبادلة لاحدود لها وصلت إلى حد التكفير وإلى الفتنة والقتل، لكن لم نسمع عن أي واحد من خصوم عثمان يتهمه بأنه جمع القرآن مبتورا أو أحدث فيه هو أو غيره تغييرا".( ص278، 279)وقد أكد الجابري على هذا القول بعد صدور كتابه [ مدخل إلى القرآن الكريم ] في عموده الأسبوعي ( في الصميم) بمجلة المجلة السعودية بتاريخ 23 فبراير 2008 يقول الجابري وكأنه رد على ما قاله البعض عن كتابه هذا "لا نستطيع الشك في صحة النص الذي بين أيدينا اليوم. إنه نفس النص (المصحف) الذي جمع ورتب وأقر كنص رسمي زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وكما هو معروف فلقد كان للنبي كتاب يكتبون الوحي, أي القرآن. وكان هناك حرص شديد على أن لا يكتب غيره من كلام النبي حتى لا يقع اختلاط. وعندما تم الوحي وتوفي النبي صار لكل من كتاب الوحي "مصحف" يتكون من مجموع ما كتبه من الآيات، وكان نزول القرآن قد استمر مدة 23سنة، إذ كان ينزل منجما مقسطا حسب ما تقتضيه الظروف والأحوال. ويتحدث المؤرخون عن عمليات تمهيدية لجمع القرآن تمت زمن أبي بكر وعمر. ومهما كان فإن الثابت تاريخيا هو أنه في زمن عثمان شكلت "لجنة" من كتاب الوحي لجمع ما عند هؤلاء الكتاب من القرآن ومقارنة مصافحهم بعضها مع بعض والخروج بنسخة واحدة رسمية هي المصحف المتداول منذ ذلك الوقت إلى اليوم. أما النسخ الأخرى، أعني ما كان قد جمعه كتاب الوحي أو غيرهم. فلم يسجل بينها كبير اختلاف ماعدا بعض الفروق على صعيد ترتيب السور وقراءة بعض الآيات وقد أخذ ذلك بعين اعتبار، وجمع منها مصحف واحد، رتبت سوره على أساس حجمها من الطويل إلى القصير، ووزع على الأمصار كمصحف "إمام" وصدر الأمر بإحراق المصاحف الأخرى لتجنب هذا الخلط".. مضيفاً في فقرة أخرى من مقاله "أن المسلمين والصحابة أنفسهم قد اختلفوا وتنازعوا وقامت بينهم حروب.... إلخ.. ومع ذلك لم يتهم أي منهم طرفا ما بالمس بالقرآن كنص.إن عملاً من قَبِيل ما أنجزه الجابري لا يُمكن أن نتساءل بعد سنوات قليلة من غيابه، ونقول هل ما يزال متفاعلاً وفاعلاً في بِنْيَة المجتمع والثقافة العربيتين؟ إن اقتناعنا بحرصه الشديد على الوفاء لقيم التحديث السياسي، وانخراطه السياسي في معترك الدفاع عن قِيم الديمقراطية والعدالة والمساواة، وهي القيم التي يتطلع إليها الجميع اليوم، يجعلنا ندرك نوعية الحضور الفاعل الذي تتمتع به أعماله في الثقافة العربية. كما أن وعينا بمزايا مواقفه من التراث وسط التوظيفات العقائدية، التي تستعيد اليوم جوانب من التراث بطرق تغفل تماماً مقتضيات التطور التاريخي في عالم جديد، يجعلنا ندرك قوة النقد الذي صوَّبَه لأخلاق الطاعة وقيم الاستبداد في الجزء الثالث والرابع من أطروحة نقد العقل العربي.. ومن الواضح أن مواقف عديدة في الخيارات التي انحاز إليها ودافع عنها، تلتقي اليوم مع تطلعات الأجيال الجديدة نحو مجتمع المواطنة وقيم التاريخ. رحم الله محمد عابد الجابري رحمة واسعة.