10 سبتمبر 2025

تسجيل

عصر الـ «بَيْنَ بَيْن».. لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء !

19 يونيو 2024

يُحكى أن ملكاً أراد أن يختار خليفة له من اثنين من أبنائه. أرسلهما مع مستشاره للتجول في مملكته ومخالطة الناس لاختبارهما في فنون الحكم. أخذهما مستشار الملك إلى إحدى القرى وطلب منهما أن يكتما أمر صفتهما الملكية ويحاولا النزول ضيفين على أي بيت هناك. وقع اختيارهما على بيت فلاح بسيط سألاه الضيافة فرحب بهما وقدم لهما ما لديه من طعام وفراش، واحتفى بهما هو وزوجته وأولاده. لما انتهت الضيافة غادرا القرية وعادا إلى مستشار الملك الذي طلب أن يحكيا له كيف كانت التجربة. قال أحدهما: إن الفلاح لم يحسن استضافتنا إذ قدم لنا بقايا طعام في أوان مهشمة، وترك أبناءه يزعجوننا طيلة الوقت، كما أن الفراش الذي جهزه لنومنا لم يكن نظيفا كما ينبغي. أما الآخر فقال: لقد أحسن الفلاح استضافتنا وأكرمنا بكل ما توفر لديه. فهو قدم لنا كل ما كان في بيته من طعام ربما استخلصه من بين أيدي زوجته وأبنائه فلم يكملوه. كما أنه آثرنا بفراشه وفراش أبنائه، ولا يبدو أنه كانت لديهم غيرها. فلما عاد الثلاثة إلى الملك وسمع قصة ولديه مع الفلاح اختار الثاني ليصبح خليفته كونه كان أحكم في النظر إلى الأمور وفهم أبعادها وسياستها. * الشاهد، أن الابن الأول نظر إلى الأمر بعين القسوة وقلة التدبر أما الثاني فنظر إلى الأمر ذاته بعين الرحمة والتفهم، وهذه صورة مبسطة لما يسمى في العلوم السياسية نظرية المعرفة. ونظرية المعرفة هي الأسس أو المعايير التي نرى بها الأشياء ونحكم عليها. وهي التي تشكل فكر إنسان وتحدد قيمه وقناعاته وتجعله يقدس شيئا أو يحقره، بينما يأتي شخص آخر بنظرية معرفة مختلفة تحتقر ما يقدسه الأول وتقدس ما يحقره. مثلا، الذي يؤمن بالدين الحق، يرى الله في كل شيء، ويفهم أن المُلك كله بيد الله، وأن الدول والإمبراطوريات تبقى بالعدل وإقامة شرع الله وتزول بالظلم وأكل حقوق الناس بالباطل. أما الذي يجعل نظريته المعرفية هي الماركسية مثلا، فهو لا يؤمن بالخالق ابتداء، ويرى أن الأمم والإمبراطوريات تزول لأسباب وعوامل دنيوية سطحية يسميها صراع الطبقات، ويرى أن الزوال يحدث عندما يصل تسلط النخب والقوى الحاكمة إلى درجة الاستئثار بجل المنافع والخيرات وترك الشعوب في حالة مزرية. وهو لا يرى يد الله في كل ذلك، تماما كالذي لم ير أي خير في ضيافة الفلاح. * ذلك الذي نظريته المعرفية ليست الإيمان بالله تظل فكرته عن الحياة والحق والعدل تتقلب وتتناقض في مستوياتها المختلفة ولا تصل إلى الكمال، تماما كاستحالة وصول الفكر الوضعي سواء كان ماركسيا أو ليبراليا أو أناركيا، إلخ..، إلى مستوى المنهج المتكامل، وهو ما أثبتته التجارب في العقود الأخيرة التي شهدت فشل كل المشاريع الإنسانية القائمة على نظرية معرفية غير الوحي الإلهي. فقد شهدنا في بداية تسعينيات القرن الماضي انهيار أكبر حصن للفكر الشيوعي والاشتراكي وهو الاتحاد السوفيتي والذي كنت شاهدا على تدشين زواله من خلال ندوة دولية (سالزبورج سيمينار، سبتمبر 1989) تنعقد في النمسا سنويا وتضم صحفيين وسياسيين ومفكرين من مختلف دول العالم وكانت محصلتها النهائية أن الاتحاد السوفيتي إلى زوال قريب،،، وقد كان. كما شهدنا كيف تحولت الصين وهي الحصن الآخر للشيوعية إلى شيء ليس هو بالشيوعي وليس هو بالليبرالي، ولكنه «بين بين»، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ثم شهدنا في الوقت نفسه تحول المعسكر الغربي بدوره إلى شيء أيضا «بين بين» فهو لم يعد ليبراليا كما يدعي ولم يعلن رسميا اتباعه الفكر الشيوعي القمعي وإن كان يطبقه بحذافيره. وقد ظهر ذلك بوضوح في أحداث كثيرة أحدثها المشاركة الوحشية في عملية الإبادة الجارية في غزة وفي قمع طلاب الجامعات المحتجين عليها. * لقد شهدت البشرية في الأزمنة الأخيرة، وبفعل فاعل أراد تشويه الفكر الإنساني، عمليات تصنيف لمراحل الحياة على الأرض بعضها زمنية مثل العصر الجليدي والعصر الحجري والعصر البرونزي، وبعضها على أساس الإنجاز العلمي مثل عصر القوس والعجلة وعصر البخار والقطار وعصر الكمبيوتر والإنترنت، وبعضها فكرية مثل عصور الظلام وعصر النهضة وعصر العقل وعصر العلم، وهكذا. ومع عدم التسليم بصحة أو دقة معظم تلك التصنيفات، فأحسب أن الأغلب هو أننا نعيش الآن عصر الـ «بين بين»، ولا أسميه بعصر الغموض لأنه ليس غموضا على الحقيقة بل هو غموض مصنوع مقصود في إطار عملية «صناعة الكفر» لجعل النموذج الصيني الجديد هو نموذج الحكم العالمي. وهو عصر يراد فيه التلاعب بالبشر بكل الوسائل الممكنة حتى لا يكون الرجال رجالا ولا النساء نساء، ولا الحق حقا بيّنا ولا الباطل باطلا بيّنا، ولا الخير خيرا صريحا ولا الشر شرا قبيحا. والخلاصة أننا بصدد تحول تاريخي عالمي يريد من يحركه توحيد نظرية المعرفة لدى البشر كافة إلى عبادة أي شيء إلا الله الواحد الأحد، ويريد توحيد البشر على كذبة أنهم يشتركون في أصلهم مع القرود، وأن ليس عليهم إلا الحياة الفردية من أجل الاستهلاك والعبث واللهو، فيعيش كل فرد منعزلا عن المحيطين به وإن تواصل مع من لا يعرفهم في أقاصي الأرض. هذا المعنى أكده لي الدكتور وليام كولمان، مؤسس «معهد دراسات العولمة» بجامعة ماكماستر الكندية، في مقابلة صحفية، عام 2007، بقوله إن العولمة تفرق الناس في الواقع بينما تجمعهم في اللاواقع أي في العالم الافتراضي. وحتى هذه الفكرة، بحد ذاتها، تجعل مسألة التقارب بين البشر «بين بين».