15 سبتمبر 2025
تسجيلمن بين الأسرى المشركين الذين وقعوا تحت أيدي المسلمين يوم بدر، كان سهيل بن عمرو، خطيب قريش الفصيح البليغ، المعروف بخطابته في مكة ضد الإسلام والمسلمين، يشتم ويعيب الدين الجديد، الذي جاء به رسول الله، عليه الصلاة والسلام، هكذا كان قيامه يخطب في الناس، بما له من الفصاحة والبيان، ولكنه اليوم بعد معركة بدر، أسير قد أسكت ذل الأسر لسانه الذَّرِب، ومنع القيد وقوفه المنتصب، وكذلك يقطع الموقف الشديد العصيب، قول كل خطيب، فلا يعود للبيان ميدان يصول فيه اللسان. يومئذٍ رآه عمر بن الخطاب، وهو يعلم جيدا ما كان من شأن سهيل في مكة، وما كان عمله فيها، فمشى عمر إلى النبي، وقال له بما عُرف به من شدة وقوة في الدين:(يا رسول الله، دعني أنزع ثنيتيْ سهيل بن عمرو، حتى لا يقوم عليك خطيبا بعد اليوم)، فقال النبي الأمين، الذي بعثه الله رحمة للعالمين:(كلا يا عمر، دعه، لعل سهيلا يقف غدا موقفا يسرك)، وسنعلم هذا الموقف بعد حين يسير، الذي يمثل نبوءة للنبي الكريم، الذي اختار استعمال الحلم والأناة مع أسيره، على ما كان منه سالفا، وما عُرف به من عداوة وخصومة في حق الدين. فُكَّ إسارُ سهيل بن عمرو، وعاد إلى وطنه مكة، وعاش فيها إلى أن جاء عام فتح مكة من السنة الثامنة للهجرة، وقدم رسول الله مع صحابته مؤيدين بنصر الله وتوفيقه، فدخلوا البلد الحرام آمنين مطمئنين، واستحضر المهاجرون من الصحابة صورة ما كانوا عليه في وطنهم الذي طالما شهدوا فيه صنوف الأذى والسوء، من المشركين، ثم كيف مكّن الله لهم اليوم وأعادهم إليه ظافرين عزيزين، فما زادهم ذلك إلا حمدا وشكرا، لا زهوا وفخرا، وما أحدث فيهم إلا تسامحا وتغافلا، عما لقوه في الماضي من أهل مكة، فطوَوْا صفحة الأمس، وألقوا بها في هاوية النسيان السحيقة.هنالك دارت الأرض بسهيل بن عمرو، حين جاء هذا الأمر، وضاق به على سعته الرَّحْب، وظن أنه هالك لا محالة، مما قد اقترفه في حق الإسلام من سوء، وما جنته نفسه من عداء طول السنين الماضية، وتذكر ما كان منه قبل نحو عامين في الحديبية، فهجمت على خاطره الذكرى فأزعجته وزعزعته، لمّا ابتعثته قريش لمفاوضة رسول الله، وعقد الصلح معه، الصلح الذي كان الرسول حريصا عليه لرحمته وتسامحه، حتى قال لأصحابه:(لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة، يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)، فأفاد سهيل من ذلك إفادة كبيرة، واستطاع بدهائه وفطنته من ربح مكاسبَ لقريش، وتحقيق أغراضها من إبرام شروط الصلح. تذكّر سهيل موقفه من رسول الله حين أمر عليا بن أبي طالب، بكتابة الصحيفة، فأملى النبي عليه:(بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل:(أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم)، فأمر رسول الله عليا بذلك، ثم أملى:(هذا ما صالح عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل:(لو نعلم أنك رسول الله، ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك)، فقال رسول الله:(إني رسول الله، وإن كذبتموني)، وأمر عليا أن يمحو كلمة رسول الله، ويكتب في محلها محمد بن عبد الله، ولكن عليا لم تستطع نفسه تقبل محو كلمة رسول الله، ولا طاوعته يمينه بذلك، فتناول النبي الصحيفة ومحا الكلمة بيده لتتم كتابة الصلح.لم ينته موقف سهيل عند هذا، فإنه في أثناء كتابة الصحيفة، قدم على رسول الله، أبو جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو، جاء من مكة فاراً، بنفسه والأغلال في جسده، وألقى بنفسه لدى المسلمين، فقال سهيل:(هذا أول ما أقاضيك عليه، على أن ترده)، فقال النبي:(إنا لم نقضِ الكتاب بعد)، قال:(فوالله إذن لا أقاضيك على شيء أبدا)، فقال النبي:(فأجِزه لي)، قال:(ما أنا بمجيزه لك)، فقال النبي ملحّا عليه:(بلى فافعل)، قال:(ما أنا بفاعل)، وأقبل على أبي جندل وأمسكه بتلابيبه وساقه، ليعود به إلى قريش، فجعل أبو جندل يصرخ بصوت عالٍ:(يا معشر المسلمين، أَأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني)، فقال له النبي:(يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، فلا نغدر بهم). وثب عمر بن الخطاب، إلى أبي جندل، ومشى إلى جنبه وأسرّ إليه قائلا: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. وجعل عمر يدني قائم السيف منه، يريد أن يأخذ أبو جندل السيف فيضرب به أباه، ولكن أبا جندل، أكبر قتل أبيه وعافه.كل تلك الذكرى قامت ماثلة أمام مخيلة سهيل بن عمرو، كليلٍ أسودَ بهيمٍ موحش تراءى له فيه أنه لا شك مقتول لا مناص له من هذا المصير المحتوم، ولم ير لنفسه غير أن يدخل داره ويغلق عليه بابه، ثم إنه فكّر في أن يرسل من يأتيه بابنه عبد الله، الذي أسلم من قبلُ، أو يخبره بما يطلبه منه، وهو أن يأخذ له أمانا وجوارا من محمد، فذهب عبد الله بن سهيل، إلى النبي، فقال:(أتؤمن أبي، يا رسول الله)، قال:(نعم هو آمن بأمان الله فليظهر)، ثم قال لمن حوله:(من لقي منك سهيل بن عمرو، فلا يشدّ النظر إليه، فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف). فانطلق عبد الله مسروراً إلى أبيه، فأخبره بقول رسول الله، فسُرّي عنه وقال بتأثر بالغ ونفسه تجهش بعبرته:(كان والله برَّا صغيرا وكبيرا)، فلم يلبث أن أسلم سهيل وصَدُق إسلامه، وأخلص دينه لله، وحسن عمله في الإسلام، فراح ينصره ويؤيده في كل المواطن بما وسعه جهده، كما سنعلم بعد قليل.في صبيحة يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام أحد عشر من الهجرة، لحق رسول الله بالرفيق الأعلى، ففقدت الأرض وما عليها سيد الورى، وخير من وطئ الثرى، فقدوا الرحمة والنور والهدى، وتلك والله فجيعة ليس يحدّها مدى، هذا الحدث الجلل، والنبأ العظيم، الذي بَرْقَع شمس الضحى بظلام، وهدَّ همم وعزائم الرجال، وغيّر معالم وجه دنيا الناس، فغشّاها ما غشّى، يومئذ كان لأبي بكر الصديق موقف مشهود في المدينة، وكان لسهيل بن عمرو، كذلك موقف مشهود، ولكن في مكة، حيث كان يقيم. أما موقف أبي بكر في المدينة فمشهور قد حفظه التاريخ جيدا، وعلمه كافة الناس ورووه وتناقلوه، جيلا بعد جيل، الموقف الذي ثبّت به أفئدة المسلمين وألبابهم، من هول ما نزل بهم من مصيبة فقد النبي الكريم، فقال كلماته الخالدة:(من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت...). أما موقف سهيل في مكة، فإنه قد قام في جماعة الناس، الذين هزهم النبأ وزلزلهم، وكادوا يفتنون به، وألقى خطبة كان لها مثل أثر خطبة أبي بكر هناك، وجاء بالقول الحكيم، وأبان الحق المنير، بلسان عربي مبين، حتى عاد الناس إلى رشدهم، واستقروا على إيمانهم، قد هدأت نفوسهم واطمأنت، وأسلموا إلى الله الأمر كله.وهكذا تحققت نبوءة رسول الله، التي أنبأ بها عمر حين رغب في انتزاع ثنيتَيْ سهيل، يوم أُسر في بدر، حين قال له عليه الصلاة والسلام:(لعل سهيلا يقف غدا موقفا يسرك)، وصدق رسول الله الصادق الأمين. الرجل لا لوم عليه في خلافة أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، جاء سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، إلى عمر فجلسا وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأولون يأتون عمر، فيقول: ههنا يا سهيل، ههنا يا حارث، فينحيهما عنه، ثم جعل الأنصار يأتون، فينحيهما عنه كذلك، حتى صارا آخر الناس، فشَقَ عليهما ذلك، فلما خرجا من عند عمر، قال الحارث بن هشام لسهيل: ألم تر ما صنع بنا؟!. قال سهيل: إن الرجل لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا، دُعِي القوم فأسرعوا ودعينا فأبطأنا. فلما قام المهاجرون والأنصار من عند عمر أتيا فقالا له: يا أمير المؤمنين، قد رأينا ما فعلت بنا اليوم، وعلمنا أنه أُتينا من قِبَل أنفسنا فهل من شيءٍ نستدرك به ما فاتنا من الفضل؟ قال: لا أعلم إلا هذا الوجه، وأشار لهما إلى ثغر الروم، فخرجا إلى الشام، يقاتلان ويرابطان، حتى استشهدا بها، رحمهما الله، ورضي عنهما.