17 سبتمبر 2025

تسجيل

احتياج الأمة إلى مراجعة ذاتها

19 يونيو 2016

تعيش الأمة العربية هذه الفترة انقسامات وصراعات كبيرة في بعض المجتمعات، يشعرك بالخطر الذي ربما يجعل وعيها غائبًا عن حاضرها ومستقبلها، لاسيما أنه لا سمح الله قد يسبب انعكاسات على وجودها القائم، ولا شك أن الفارق شاسعًا بين الاختلاف الطبيعي الذي تقتضيه الظروف الطبيعية من الاختلاف في الرؤى والنظر في مسائل يقتضيها التعدد الذي هو من طبائع البشر وجبلّة بشرية، وبين انقسامات فكرية وسياسية، وهذا ما يجعلنا نقبض على قلوبنا من آثار هذا الانقسام الذي يؤثر في الوعي العام للأمة العربية، وهذا الفكر قبل أن يعيش، كما يقول د.برهان غليون في كتابه (الوعي الذاتي): "الثنائية دائمة وأن لا يرى نفسه ولا يعيها إلا من خلال هذه الثنائية المعممة في الوعي والعقل والممارسة: ثنائية الحديث والقديم، والسلفي والمتجدد، والأصولي والمعاصر، والديني والعلماني... إلخ. وفي جميع المحاولات النظرية التي تعرضت لهذه الأزمة، يبدو التأكيد على هذا الجانب أو ذاك أو الدفاع عن ضرورة التوفيق بينهما، التزامًا أساسيًا لدى مختلف الأطراف. ولكن قليلة هي الدراسات التي سعت إلى الذهاب أعمق من ذلك لرؤية الأسباب الكامنة وراء هذه الثنائية، والمنابع التي تستمد منها حياتها واستمرارها. وهكذا لم يقم الفكر النظري العربي في العقود الماضية، وبقدر تبنيه لهذه الثنائية كواقع ثابت وطبيعي، إلا بإعادة إنتاجها وتجديدها. وسبب ذلك أن منهج دراسة الفكر والثقافة بقي في أغلب الأحيان، إن لم يكن في جميعها، منهجًا سجاليًا يقوم على تبرير تأكيدات ومواقف معينة أصالية أو عصرية، والدفاع عنها في وجه خصم مفترض، ولم يسمع إلا لمامًا لتجاوز هذه التأكيدات وأحكام القيمة المستمدة منها إلى الكشف عن قوانين هذه الثنائية أو وضعها موضع الشك والتساؤل. فلا يمكن أن يصدر هذا التجاوز إلا عن منهج التحليل التاريخي والمعالجة العلمية التي لا تنطلق من مناقشة صحة أطروحة الحداثة والأصالة أو خطئهما، وإنما تقوم على البحث عن مصدر هذه الثنائية في الوعي والواقع معًا. هذا لا يعني -كما يرى غليون- أن ليس لهذه التيارات السائدة والمتصارعة تفسيراتها الخاصة وغير المعلنة لأزمة الثنائية الثقافية. إذ في ردودها المتبادلة تحاول كل الأطراف أن تظهر سبب بقاء الأطراف الأخرى، وتلحقه بشكل أو بآخر بعوامل سلبية داخلية أو خارجية. ثم إنها تحتاج لتبرير نفسها وشرعية وجودها إلى أن تعطي تفسيرًا خاصًا وإيجابيًا لوجودها ومزاعمها. ويمكن تلخيص هذه التفسيرات في مذهبين أساسيين يتفق كلاهما في إرجاع عوامل هذه الأزمة إلى أسباب تاريخية قديمة أو خارجية حديثة، مستثنين من ذلك ومستبعدين عوامل الحاضر والواقع العربي الراهن في الوقت نفسه. ولا شك أنه داخل هذين المذهبين، هناك خلافات جزئية ترتبط بنظرة المنتجين لهما ورؤيتهم المثالية والمادية، وحساسيتهم الشخصية والخاصة تجاه عالم الوعي أو عالم المجتمع والتاريخ.."وهذين المذهبين الذين يقصدهما د/ برهان غليون، هما المذهب الأصولي، والمذهب الحداثي". لكن نشوء تيارات ثورية أو معادية للإمبريالية والرأسمالية وللبرجوازية معًا في حجر الإيديولوجيات التقليدية الدينية والقومية، وتصفية البنى الإقطاعية، قد أدخلا عنصرًا جديدًا إلى المعادلة، شكك في صلاحية منطقاتها وأظهر ميكانيكيتها. وهكذا ولد اتجاه ثالث جديد توفيقي يسعى إلى الربط بين الاتجاهين ويصلح أحدهما بالآخر على أرضية تفسير اجتماعي موحد لا ينفي أطروحات التحديثية الأساسية ولكنه يغنيها. وباختصار لا تنبع أزمة الثقافة العربية من استمرار وجود تيارين فكريين متنازعين، فلا يمكن تقليصها إلى وجود كل واحد منهما. فهي ليست ثمرة لبقاء الوعي المفوّت أو المتأخر أو التقليدي. وهى ليست مجسدة أيضاُ في وجود الوعي العصري أو العلماني أو التحديثي. إن جذورها تمتد في عمق التاريخ الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية التي تعيشها المدنية العربية ذاتها، بما هو استبعاد الجماعة من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة الحضارية العالمية. فهي بنت الحاضر أولًا، وهي بنت الحداثة ثانيًا، وهي ثمرة القطيعة بين الحاضر والماضي أو الذات من جهة، وبين الواقع والواقع العالمي- الحضاري من جهة ثانية. فهي إذن جزء من أزمة الفعل العربي، ولا مخرج منها، كما يشير غليون، إلا بتجاوز هذه القطيعة وتحرير الفعل. إن الصراع على السيطرة الإيديولوجية، الذي يجعل من الثقافة ساحة معركة أساسية. هو الوجه السائد للصراع الاجتماعي في مجتمعات العالم الثالث الراهنة التي تعاني من تقهقر حقيقي في مواقعها الدولية، سواء على الصعيد السياسي أو على صعيد تقسيم العمل العالمي، وذلك بعد انهيار أوهام التنمية والتصنيع التي تعاظمت بعد الاستقلال". إذن القضية الأهم التي نراها جديرة بالاهتمام أن مراجعة الأمة لذاتها أصبحت ضرورية ولازمة للحفاظ على وجودها من الانهيار والتصدع والانقسام، وهذا يحتاج إلى رؤية واعية وعقلانية لحل الإشكالات القائمة، ورفض ما يراه البعض وسيلة غائية لفرض الفكر بالقوة والإرغام والفرض.