14 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); قصة كوريا يحكيها هاجوون:ولد هاجوون تشانق في كوريا الجنوبية عام 1963 في وقت كانت كوريا فيه واحدة من أفقر دول العالم (متوسط دخل الفرد في 1961 كان 82 دولارا في حين كان في غانا 179 دولارا في السنة). انتمى هاجوون لأسرة من الطبقة المتوسطة العليا حيث كان أبوه – خريج هارفارد – موظفاً حكومياً كبيراً في الدولة رغم ذلك كان يسكن في شقة من غرفتين بلا دورة مياه (حمام بلدي!). ذكر هاجوون أن أحد أقربائهم زارهم يوماً وسأل والدته عن ماهية (الدولاب الأبيض) الغريب في صالتهم، كانت تلك هي الثلاجة! وكان الجيران يخزنون اللحم الغالي عندهم كما لو كان بنكاً. عندما دخل هاجوون إلى المدرسة في 1970 كان الفصل يزدحم بـ65 تلميذاً (كفصلي عندما دخلت المدرسة) ولكن مدرسة هاجوون كانت خاصة، المدرسة العامة بجوارهم كان الفصل يضيق بـ 90 تلميذاً. يذكر هاجوون أن الجنرال بارك حاكم كوريا في ذلك الوقت أعلن عن خطة للنهوض بمستوى دخل الفرد إلى 1000$ بحلول عام 1981 والذي كان يعتبر هدفاً مبالغاً في الطموح. في عام 1973 قام الجنرال بارك بإطلاق مشروع برنامج الصنعنة الكيميائية والثقيلة (HCI) حيث أسس أول مصنع للحديد الصلب وباحة لصناعة السفن وبدأ إنتاج أول سيارة محلية التصميم (وإن كانت الأجزاء معظمها مستوردة). ثم توالى إنشاء المصانع للإلكترونيات والماكينات والكيماويات وغيرها من الصناعات المتقدمة. في الفترة ما بين 1972 و1979 فقز دخل الفرد بأكثر من خمسة أضعاف واستطاع الجنرال بارك الوصول إلى هدف الـ 1000$ قبل الموعد بأربع سنوات، وقفزت الصادرات الكورية في ذات الفترة تسعة أضعاف. يذكر هاجوون أن هوس البلاد بالنهضة الاقتصادية كان منعكساً حتى في التعليم (وهو ما رجوته في بداية هذا الفصل للتعليم عندنا). يقول إنه وفي ظل الشح والحاجة الماسة في البلاد للعملة الحرة كان التبليغ عمن يُرى وهو يدخن سجائر أجنبية واجبا وطنيا. كانت العملة الصعبة هي "العرق والدم لجنودنا الصناعيين الذين يخوضون معركة الصادرات في مصانع البلاد" يقول هاجوون. (قارن هذا بما نصرفه نحن على السيارات – الكورية للمفارقة! – والشوكولاته والفواكه وكريمات الزينة!)كان الذين يصرفون المال في مواد استهلاكية رفاهية في كوريا يُنظر إليهم على أنهم غير وطنيين بل ومجرمون، وكانت الدولة تمنع استيراد البضائع الكمالية أو تفرض عليها جمارك عالية. بل إن السفر كان ممنوعاً حفظاً للعملة الصعبة ما لم يكن بإذن الحكومة لعمل أو دراسة. يقول هاجوون إنه لهذا السبب لم يخرج من كوريا حتى بلغ 23 عاماً حين خرج للدراسة في كامبردج.كانت كوريا في مطلع الثمانينيات قد تمكنت من تقليد الكثير من المنتجات الصناعية المتقدمة ولكنها لم تتمكن في ذلك الوقت من الابتكار والإبداع لتحتفل ببراءاتها العلمية وماركاتها التجارية العالمية. اليوم تعتبر كوريا واحدة من أكثر الدول إبداعاً حيث تصنف من الخمسة الأوائل عالمياً في عدد البراءات العلمية، بينما كانت في الثمانينيات تعيش على (الهندسة العكسية)، وتعتبر من (عواصم القرصنة) في العالم. بنهاية الثمانينيات ثبتت كوريا مكانتها كإحدى أفضل الدول متوسطة الدخل (upper-middle-income) وكان أبرز دليل على ذلك أن الدول الأوروبية أعفت الكوريين من طلب تأشيرة الدخول، فالكوريون لم يعد لديهم ما يدفعهم إلى الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. في عام 1996 انضمت كوريا إلى نادي الدول الغنية OECD. انتقلت كوريا في أقل من 40 عاماً من تصدير خام التنجستان والأسماك والشعر المستعار إلى تصدير السيارات والسفن والهواتف الذكية (انتهى كلام هاجوون).إذا قارنا التجربة الكورية بالحال السوداني فإننا نجد أن السودان كان في الستينيات يصدر المنتجات الزراعية وهو اليوم كذلك يصدر المنتجات الزراعية بالإضافة إلى الذهب (أيضاً مادة خام!). قارن ذلك بالانتقال من تصدير الشعر المستعار إلى هواتف سامسونج الذكية. كان مستوى دخل الفرد في السودان في 1961 هو 157$ وهو اليوم 1500$ أي حوالي 10 أضعاف في خمسين سنة. قارن ذلك بالانتقال الكوري من 82$ إلى 33.000$ أي حوالي 400 ضعف! ليست الغاية هنا هي بث مزيد من الإحباط فقد نلنا منه الكفاية، ولكن بث الأمل، فكل ما يظن السودانيون اليوم أنه يمنعهم من النهوض كان مثله في كوريا في الستينيات أو أسوأ منه سواءً كان من الراهن الاقتصادي أو الثقافة الشعبية أو حتى السياسة (كوريا ظلت ديكتاتورية حتى 1987).لا شيء يمنعنا من النهوض كغيرنا من الأمم، نحتاج أن نثق في هذه الحقيقة ثقة تامة أولاً، ثم ننظر في واقعنا بعين مجردة من الأوهام والخرافات سواءً كانت عن منح لا نملكها أو موانع ليست فينا. وأكرر، السودان ليس غنياً بالموارد بالشكل الذي نتصوره بل هو فقير في غالبها، ولكن السودانيين أيضاً ليسوا شعباً ذا مناعة فطرية من التمدن والصناعة، ولا ينبغي أن يقعد بنا الكسل أو التنوع الإثني أو قلة احترام الوقت أو قلة القدرة على العمل الجماعي أو النظام، كل هذه الصفات قيلت عن من هم طليعة الشعوب اليوم في النشاط واحترام العمل والوقت والدقة والمهارة في العمل والنظام. بل ربما يكون للسودانيين خصيصة حيث إن أحد الأكاديميين ذكر في ورقة كتبها عن ثقافة شعب الملايو المتهم بالكسل وعن قدرتهم على النهوض، ذكر ما أسماه قصة مشهورة عن ميكانيكي سوداني تمكن من إصلاح عطل كبير في عربة بـ (توليفة) ذكية تدل على حس حِرفي وصناعي عال لدى هذه الشعوب (شعوب الدول الفقيرة).الذي نحتاجه الآن هو نشر الوعي بين الناس وزرع الثقة في النفوس. فالنهضة متاحة لكل الشعوب إلا من أبى، والذي يأبى هو الذي يقعد ممسكاً بمنجل ورسن حمار ويتوعد شعوب العالم بالسبق إلى المجد! الذي يأبى هو من يقعد على بداية الطريق ينظر إلى الأفق الأغبش فيصيبه اليأس حين لا تنجلى له الأنوار من مكانه ويقول هذا أمر لا طاقة لنا به وإنا ههنا قاعدون. لذلك فإن علينا ألا ندع قيادَنا بأيدي أمثال هؤلاء، بل ندعه لأصحاب البصائر والخيال الذين لا تعجزهم الرؤية من خلال الغبش ولا يقعدهم طول الطريق.