08 نوفمبر 2025

تسجيل

الأنا وحدها لا تصنع ما نريده لنا

19 يونيو 2014

ما عدوك إلا ابن كارك .. هذا مثل شعبي مصري، معناه أن أبناء المهنة الواحدة لايحبون بعضهم، والحقيقة أن هذا ما نلاحظه في عالمنا العربي عموما وفي مصر خصوصا، فمن النادر أن نجد طبيبا ناجحا يمدح طبيبا آخر لايقل عنه في مستوى النجاح، ومن الصعب أن نجد مهندسا بارعا يتحدث – بحب– عن سواه من المهندسين البارعين، أما الشعراء فإنهم يتصافحون وقد يتعانقون حين يلتقون في الأمسيات التي تجمعهم، لكن كل شاعر منهم يتصور في قرارة نفسه أنه الأعظم والأروع، وأن الآخرين أقل مرتبة منه!كم من مكائد، دبرها الشعراء اللؤماء في زمان المتنبي، لكي يسيئوا إلى هذا العبقري، لكنه كان يواجه كل مكيدة ببيت واحد أو عدة أبيات من قصيدة، تريهم كم هم أقل منه شأنا ومرتبة وموهبة، حيث يتعثرون ويرتبكون بمجرد أن يصرخ هو فيهم صرخة واحدة من صرخاته الحادة المدوية، وتتواصل صرخاته في وجوههم: وعداوة الشعراء بئس المقتنى، وعلى الرغم من أن المسافة الزمنية بيننا وبين زمان المتنبي تزيد على ألف سنة، فإن الشعراء الكبار في زماننا قد استمعوا بالتأكيد لصرخات المتنبي، فمنهم من يأخذ حذره وهو يواجه المكائد، ومنهم من يفضل أن يبتعد تماما عن وجوه هؤلاء، مكتفيا بأن يترفع وأن ينشغل بإبداعه الشعري، وهذا ما يفعله الشاعر الكبير والإنسان الجميل فاروق شوشة، مفضلا أن يتجاهل الصغائر والسفاسف، وكأنه يتحدى المتنبي ذاته، ولا يتوقف كثيرا أو قليلا عند صرخته المدوية : وعداوة الشعراء بئس المقتنى، ربما لأنه يدرك أن الأنا وحدها لا يمكنها أن تصنع ما نريده لنا!يتحصن فاروق شوشة بالإبداع، حيث يقوم باكتشاف الكنوز المطمورة من تراثنا الشعري، وهو ما يتجلى في كتابه الرائع لغتنا الجميلة الذي صدر في أربعة مجلدات فخمة وضخمة عن وزارة الثقافة والفنون والتراث في قطر، بعد أن تحمس له عاشق لغتنا العريقة الدكتور حمد عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والتراث، وفاروق شوشة يكتب بكل الحب والإكبار عن شعرائنا العرب المرموقين والكبار، كما يكتب – دون استعلاء – عن شعراء الأجيال العربية الجديدة، وفي نفس الوقت فإنه يتابع الساحة الثقافية والأدبية والفنية بكل دقة، دون أن ينغمس في صراعات ناسها، ممن يدبرون المكائد وينصبون شباك الدسائس، وهم جميعا من طراز الناس الذين تأفف منهم أمير الشعراء شوقي، حين قال مخاطبا أمثالهم : وفيم يكيد بعضكم لبعض – وتبدون العداوة والخصاما ؟!منذ فترة قريبة، سعدت من أعماق القلب، حين قرأت عملين جديدين من إبداع فاروق شوشة – هذا الشاعر الكبير والإنسان الجميل، وهذان العملان هما : وجوه في الذاكرة – لوحات شعرية، والرحيل إلى منبع النهر، لكني لم أندهش بعد أن لاحظت أن النقاد لم يتحدثوا بما فيه الكفاية عن هذين العملين الرائعين، لماذا لم أندهش ؟ لم أندهش لأن أزمنة الفوضى لا تتيح – حتى للجادين من الناس – فرصة الاستمتاع بما هو جميل ونبيل!