15 سبتمبر 2025

تسجيل

نموذجان من الأزمة المالية العالمية

19 فبراير 2012

مع أن الأزمة المالية العالمية شملت كافة بلدان العالم تقريبا، إلا أن التعامل معها ومع انعكاساتها الخطيرة تفاوت بين بلدان وأخرى، مما خفف من حدة تداعيات هذه الأزمة على بعض البلدان وألقى بظلال كثيفة ومؤلمة على بلدان أخرى. ولنأخذ نموذجين من معقل الأزمة الأخيرة في منطقة "اليورو" ففي بداية الأزمة تشابهت إلى حد بعيد ظروف أيرلندا واليونان، فالدولتان كانتا تعانيان من أزمة عميقة وتتساويان إلى حد بعيد في عجز الموازنة المرتفع وفي حجم الدين الكبير للناتج المحلي الإجمالي. أما الوضع الحالي لكل من أيرلندا واليونان، فإنه مختلف تماما، فأيرلندا حققت تقدما ملحوظا على طريق معالجة تداعيات الأزمة للخروج منها بأقل التكاليف، في الوقت الذي ما زالت أثينا تتخبط في مشاكلها المتفاقمة، وهي معرضة للإفلاس والخروج من منطقة الوحدة النقدية الأوروبية، وذلك رغم تلقيها دعما ماليا ضخما يفوق كثيرا ما تلقته أيرلندا. وبالتأكيد، فإن لهذا التفاوت أسبابا عديدة وتجربة يمكن أن تكون مفيدة للكثير من الشعوب والبلدان التي يمكن أن تتعرض لأزمات اقتصادية واجتماعية في أي وقت، حيث تكمن هذه الأسباب في ثلاثة عوامل رئيسية: ولنبدأ بالعاملين والنقابات العمالية والمهنية، ففي أيرلندا تنازل العمال عن بعض مطالبهم مؤقتا للمساعدة في انتشال بلدهم من الأزمة وعملوا بصورة جادة لزيادة الإنتاجية والتخفيف من حدة البطالة، مما أسهم في عودة تدريجية للأنشطة الاقتصادية وتوفير المزيد من الوظائف. أما في اليونان، فإن العاملين ونقاباتهم لم يكفوا وعلى مدى أكثر من عام ونصف عن التظاهر وترك أماكن العمل، مما أدى إلى تدني الإنتاجية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتعميق الأزمة، بل إن المساعدات الهائلة التي قدمت من الاتحاد الأوروبية وصندوق النقد الدولي تبخرت دون أن يكون لها مردود على تحسين الأوضاع المالية هناك. وعلى مستوى قطاع الأعمال، فإن الشركات والمؤسسات المالية ورجال الأعمال في أيرلندا التزموا التزاما كاملا بدفع الضرائب وتسديد التزاماتهم تجاه الدولة لدعم قدراتها المالية، في الوقت الذي تتهرب فيه معظم الشركات ورجال الأعمال في اليونان من دفع الضرائب، حيث تراكمت المبالغ الناجمة عن ذلك لتفوق 14 مليار يورو وهو مبلغ كبير يمكن أن يساعد في حل العديد من القضايا ذات العلاقة بالأزمة العميقة التي تواجهها أثينا. وأخيرا، فإن عمل الحكومة الأيرلندية يتميز بالشفافية والمحاسبة والمراقبة البرلمانية الصارمة، مما ساعد على الحفاظ على موارد الدولة وتوجيهها لخدمة التنمية ومعالجة تداعيات الأزمة، وذلك على العكس من اليونان التي تعاقبت عليها إدارات فاسدة، مما أدى إلى انتشار الفساد بكافة أشكاله، بما فيه التهرب الضريبي وسوء تنفيذ المشاريع العامة والحصول على عمولات واتخاذ إجراءات غير قانونية، مما أسهم في التقليل من جذب الاستثمارات الأجنبية وتفويت الكثير من الفرص الاستثمارية التي كانت تمكنها زيادة معدلات النمو وتحسين عائدات الدولة. ولكن ما الذي يجعل هذا التفاوت قائما بين البلدين بهذه الصورة الصارخة، في الوقت الذي ينتمي فيه البلدان إلى نفس المجموعة الأوروبية الراقية والشفافة والمتقدمة؟ سؤال مهم لا بد من دراسته للاستفادة من الخلاصات التي يمكن الخروج بها، خصوصا وأن الأمر لا يتوقف على جهة معينة، فالتفاوت يشمل الناس والنقابات المهنية ورجال الأعمال والمسؤولين الرسميين، مما يشكل ظاهرة لافتة للنظر. فمن جهة يقف العالم أمام بلد متحضر مثل أيرلندا ومتعاون بين كافة مكونات المجتمع الرئيسية، مما حوله إلى نموذج للتضامن بين هذه المكونات من أجل إنقاذ بلدهم وتقدمه، ومن الجهة الأخرى هناك بلد مثل اليونان يشبه إلى حد بعيد ضحية تتعرض للذبح وتقاسم الرمق الأخير مما تبقى من خيرات ومساعدات من قبل كافة مكونات المجتمع، وكأن لا أحد هناك يعنيه انهيار البلد الذي يملك مقومات النمو والتنمية. هل تكمن المشكلة في العقلية اليونانية الأقرب لمحيطها الشرقي والذي يعتبر نقيضا للعقلية الأيرلندية الغربية؟ أم أن الأمر يكمن في طبيعة الشعبين، فالأيرلندي مثل شقيقه الإنجليزي يتميز ببرودة الأعصاب ومعالجة القضايا بحكمة وترو، في الوقت الذي يغلب على اليونان التوتر والمبالغة في التفاوتات الاجتماعية. هذان نموذجان للتعامل ليس مع تداعيات الأزمة المالية فحسب، وإنما لمعالجة الكثير من القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث يمكن لمختلف بلدان العالم، بما فيها العربية الاستفادة منها للتخفيف من التناقضات الاجتماعية للمساعدة في وضع بلدانهم على طريق التقدم والنجاح الاقتصادي والتقني.