15 سبتمبر 2025

تسجيل

عولمة العنف و عمى السياسة إلى أين ؟

18 نوفمبر 2015

لو شئنا وضع عنوان للمرحلة التي نعيشها منذ انبلاج فجر القرن الحادي والعشرين لاخترنا بدون تردد عنوان (عولمة العنف أو عمى البصائر) وهي حلقة نكاد نقول طبيعية من حلقات مسلسل العولمة الاقتصادية والعولمة البيئية و العولمة الوبائية والعولمة الرقمية و العولمة الثقافية...وصولا إلى زوال الحدود أمام العنف و القتل والإرهاب. عالم اليوم عالم مفتوح يعيش مرحلة مخاض عسير لا نعرف ماهية الجنين الذي سيولد من أرحام عصرنا الحاضر هل هو مولود سوي أم مولود مشوه أم مولود ميت ؟ إن الذي حدث في قلب عاصمة فرنسا ليلة الجمعة الماضي هو تأكيد لهذه النظرية وترسيخ لهذا الواقع: الإنسانية كلها على أعتاب عصر جديد ربما تسرع بعض السياسيين و سماه عصر الحرب العالمية الثالثة ضد الإرهاب (مثل بوتين و أوباما) و ربما تجرأ البعض الآخر فوصفه بعصر نهاية التاريخ و سيادة الليبرالية (مثل فرنسيس فوكوياما) و نعته البعض الثالث بأنه عصر صدام الحضارات (مثل صامويل هنتنجتن) و لكني أميل إلى تعريف رابع غفل عنه أغلب الخبراء وهو أننا نعيش عصر العمى السياسي و غياب البصيرة الحضارية مما جعلنا نعمى عن حقائق ساطعة لا نراها و لا نعتبر بالتاريخ فتستمر الفواجع و يطل علينا ليل طويل من الويلات والكوارث. وهو ما أبدع في تأكيده رئيس الحكومة الفرنسي الأسبق (دومينيك دو فيلبان) بعد الاعتداءات. نظرية العمى أصدرها صاحبها المؤرخ الفرنسي الشهير (مارك فيرو) في كتاب نشرته مؤسسة (تايلندييه) الباريسية منذ أسابيع قليلة و بادرت بمطالعته و عنوانه هو:L›aveuglement:une autre histoire de notre monde و ترجمته هي (العمى . تاريخ مختلف لعالمنا) يقول (مارك فيرو) نحن عميان كما كنا و أصبحنا نعيش في عالم بلا حدود رغم ما ابتكرته الدول من جدران عالية و من خنادق عميقة و من أسلاك مكهربة بقصد التمترس بغاية انعزالها عن مصائب الدنيا ! فالكمبيوتر العادي أو الهاتف الذكي الذي بين يديك يضعك آليا وآنيا في دوامة أحداث العالم لحظة بلحظة ويجعلك أنت نفسك متفاعلا مع تلك الأحداث بفداحتها ومعلقا عليها ومستقبلا لآخر مستجداتها بل و موزعا نشيطا لها على ذويك و أصحابك وآلاف المجهولين المتفاعلين معك ! وهو ما حدث كامل ليلة الجمعة الماضي إلى فجر السبت انطلاقا من العمل الإرهابي في قلب باريس ! فكيف و الحالة هذه ننجو من اختراق العنف لأخص خواصنا ؟ أنا نفسي ليلة السبت الماضي عند سماعي أخبار القتل في ثلاثة مواقع باريسية بادرت إلى الهاتف الجوال أسأل عن أخبار أولادي الأربعة وهم يعيشون في ضواحي باريس (نتيجة المنفى القسري الذي فرضته عليَّ و على الآلاف دولة طاغية جهولة سنة 1986 في مرحلة خرف الزعيم بورقيبة) لأطمئن على أولادي هل هم في بيوتهم ام أن أحدهم كان في ملعب (سان دوني) أو مسرح (باتاكلان) وهي عاطفة الأبوة الغريزية وقد تحركت بعفوية لتطمئن على فلذات الأكباد مهما كبروا! ثم هو تصرف ناجم عن إيماني بأن لا أحد يمكن أن يكون في مأمن أمين من الإرهاب مهما كان بعده عن السياسة فالعنف أصبح أعمى (مثل عمى البصائر عن العدل و الحق) أينما مورس واستوى الحال أن يموت أبرياء يشاهدون مقابلة كرة قدم بين فرنسا وألمانيا أو أبرياء في ضواحي حلب أو الحلة أو ريف إدلب دكت البراميل المتفجرة أو القنابل الروسية أو الأمريكية أو الفرنسية أو البريطانية بيوتهم فوق رؤوسهم و رؤوس أطفالهم ! هؤلاء جميعا أبرياء بنفس المستوى وبنفس البراءة و يستحقون نفس الرحمة. هذا هو عنوان العهد الجديد : عولمة القتل بلا حدود و بلا غاية و بلا عقيدة و بلا أخلاق. أي في النهاية عولمة عمياء و جائرة و أملنا هو ألا تكتفي دول ما نسميه المجتمع الدولي بمعالجات أمنية متسرعة وهي ضرورية بالطبع لكن معالجة جذور الإرهاب على المدى الطويل تكمن في تحقيق الإصلاحات الكبرى والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها و التنعم بالحرية و تقاسم ثمار التقدم و هذا لن يتحقق إلا بتعديل النظام العالمي الظالم....و الأعمى. و لله الأمر من قبل ومن بعد و لله ترجع المصائر وهو القادر على فتح البصائر.