11 سبتمبر 2025

تسجيل

الأفكار الملغومة

18 سبتمبر 2016

لطالما كانت الأشياء نسبية في الحياة، فكل ما على الأرض يحتمل الصواب والخطأ، وكل فكرة على وجاهتها حمالة أوجه، وهذا ما يجعل للكلمات معاني وتفسيرات، ويجعل للأفكار طرائق من الفهم، يختلف البشر عليها أو يتفقوا. بين هذه الثنائيات الكثيرة، يتسيد الأبيض والأسود، والخير والشر، والحرية والعبودية، والحقيقة والخيال، والحقيقي والمتخيل، إلى جانب ثنائيات أخرى لا تعد ولا تحصى، ولكن الثنائية الأكثر أهمية وانتشارا وتأثيرا تبقى ثنائية الكفر والإيمان، وهي ثنائية صبغت حياتنا البشرية منذ قديم الزمان، وكانت البشرية في حالة من الصراع بين الخير والشر، على اختلاف البشر في تعريف ما هو الخير وما هو الشر.وبعد ذلك انتقلت هذه الحالة إلى مرحلة جديدة هي، الصراع بين الكفر والإيمان، وبين الكفار والمؤمنين، واندلعت حروب طاحنة بين الطرفين، لا تزال تدور رحاها حتى الآن، وهي باقية إلى ما شاء الله.هذه الصورة المصغرة والمكثفة لواقع شديد التعقيد، تنقلنا إلى السؤال البدهي عن المرجعيات التي تحكم تعريف الأشياء، وعن الكيفية التي تمت بها بناء هذه الأشياء وتحويلها إلى واقع ملموس، أو مرئيات لا يمكن تجاوزها، يتصارع عليها البشر إلى درجة الإفناء في بعض الأحيان، ما يجعل منها محددات حقيقية لحقائق أو أوهام، تكلف البشرية الكثير من الأرواح والدماء والزمن، ما يدفعنا إلى محاولة البحث عن تعريف للأشياء أو تعاريف للمفاهيم، التي تستوطن الحالة الإنسانية جمعاء، أي إلى "البحث عن الحقيقة"، وهذا ما جعل الناس ينقسمون إلى ثلاثة أصناف بين من يرى الحقيقة في الفلسفة، ومن يراها في العلم، وآخرون، وهم الغالبية العظمى، يرونها في الدين.لقد فشلت الفلسفة تاريخيا بتقديم إجابات شافية على الأسئلة الوجودية للإنسان، واحتار العلماء في كيفية "تجريب ما لا يجرب"، ولم يبق غير الدين الذي قدم إجابات شافية للأسئلة الوجودية. إذا كان لكل إنسان معياره في الحكم، فإن علينا جميعا أن نتفق على معيار موحد، يقيم الحجة علينا جميعا، وهذا يدفعنا إلى البحث عن وحدة معيارية للأفكار، نقيس بها جودتها، وصحتها أو خطاها، وقد نجحت البشرية في اختراع قواعد للحكم على بعض الأشياء، مثل النصوص الأدبية، أو القصائد، والنثر والبلاغة، وغيرها من الفنون غير القابلة للقياس التجريبي في المختبر، كما نجحت البشرية في سن قوانين لتطبيق "ما يسمى العدالة" على الناس وبين الناس. وهي محاولات أفادت البشرية كثيرا. لكنها رغم ذلك بقيت موضع خلاف بينهم.لقد كانت هذه القواعد مجرد عمليات توافق بين البشر على "مفاهيم" معينة للعدالة والإبداع والجودة، وهي ليست بالمطلق صحيحة، بل ربما تكون صحيحة، وربما لا تكون على الإطلاق، ولكن البشرية، أو فئات منها اتفقت على اعتمادها مرجعيةً للاحتكام إليها، لفك الاشتباك بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، وبين ما يعتبر خيرا وما يعتبر شرا، إلى آخر ما هنالك من تمايزات ثنائية.من يختار هذه القواعد المرجعية؟ ومن يفرضها؟ ومن يجعل منها قواعد مقبولة بين الناس، أو ما يطلق عليه "مجتمع"؟ هل هي النخبة أم العامة؟ الأكثرية أم الأقلية؟ الأقوى أم الأضعف؟ من يملك السلطة أم "الشعب"؟هنا يبدأ الاختلاف والاحتراب والقتل، وهنا تسيل الدماء أنهارا، لإثبات وجهات النظر، وهنا تتحول هذه الأفكار إلى ألغام متفجرة، لا تنتج إلا القتل والدمار، مرة باسم السماء، ومرة أخرى باسم العداء للسماء، الأمر الذي يشرع الأبواب أمام تساؤلات لا نهائية عن "المخبولين"، الذين يقودون العالم والإنسان، إلى الدمار الروحي والنفسي والأخلاقي والمادي.