14 سبتمبر 2025
تسجيلصيف تركي ساخن، وشهر تموز قائظ ودموي يذكرنا ويستحضر الذاكرة التاريخية القريبة والبعيدة بأحداث انقلابية شرق أوسطية غيرت معالم الحياة العربية والشرقية، وأضافت للمشهد التاريخي المتغير في الشرق لمسات من الماضي المفجع!، فما حصل في تركيا ليلة السادس عشر من تموز — يوليو من أحداث انقلابية عاصفة ودموية ومفاجئة لا يتناسب أبدا ودرجة التطور التي وصلت لها التجربة السياسية التركية المعاصرة التي أنتجت واقعا متغيرا وايجابيا في الحياة التركية مثل صورة زاهية من صور النهضة الوطنية، وبما وفر النموذج الجميل للعمل السياسي النهضوي في منطقة تمثل أعتى حزام الأزمات في العالم؟. محاولة الانقلاب العسكري التركي كانت فعلا خروجا عن النص!، وفعلا أخرق لجماعات وعقليات مغامرة لم يعد لأفكارها ولا لسلوكياتها حاضنة شعبية أو رأيا عاما يحتضنها لكونها مجرد مغامرة ابحار في المجهول، وتدمير كل جهود البناء الوطني المتراكم في الجمهورية التركية الحديثة التي ودعت الماضي الحافل بالانقلابات والمتغيرات العاصفة ودخلت في مجال التنمية والبناء والطفرة الحضارية وتحقيق دولة العدالة والتنمية والتطور، وبشكل خرج عن السياقات الشرقية المعروفة بل وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء الموضوعة على نهضة الشرق الذي يراد له أن يعيش تحت كنف الطغيان والتخلف، ما حدث في تلك الليلة الانقلابية التركية العاصفة من أحداث قد وفر مناعة طبيعية للتجربة الديمقراطية التركية المعاصرة، فخروج جماهير الشعب في مساندة السلطة الشرعية المنتخبة لم يكن مفاجأة غير منتظرة، بل على العكس كان ذلك تدشينا لدور الشعوب الحرة في اختيار مصيرها وتحديد معالم طريقها المستقبلي، والشعب التركي أثبت حصافته ومسؤوليته وعزز من حضوره الحضاري وانطلق يدافع عن الشرعية متوشحا بعزيمة الأجداد الذين كانت جيوشهم تدك قلاع وصروح الغرب وتحمل راية الاسلام وقيمه الحضارية!، لقد كانت الضربة الانقلابية قوية لكنها لم تقتل الارادة بل عززتها، ولم تشوه الشرعية بل حمتها وحصنتها من عوادي الحقد والتآمر، تاريخيا تذكرني أحداث الانقلاب العاصفة بما حدث في بغداد فجر الرابع عشر من تموز /يوليو 1958 حينما انقض العسكر المتآمر في ليل بهيم على الشرعية الدستورية العراقية التي بنت العراق لتسحل الجثث البشرية وترسم السيناريوهات الدموية السوداء لمستقبل عراقي مكفهر تجسد كل معالمه اليوم وبعد ستة عقود من ذلك الحدث الحالة العراقية الراهنة، كما يذكرني الانقلاب التركي الفاشل بمحاولة انقلاب قصر الصخيرات في المملكة المغربية ظهيرة يوم العاشر من تموز/يوليو 1971 حينما اقتحمت ثلة من الانقلابيين القصر الملكي في الصخيرات حينذاك لتزرع الموت وتحصد العاصفة ليفشل الانقلاب في نفس الليلة بعد أحداث دموية عاصفة!، وحتى التاريخ التركي المعاصر لم يخل من انقلابات كما حصل عام 1960 و1980 ضد ظروف وحكومات معينة وفي ظل أوضاع متخبطة كانت تعيشها الجمهورية التركية وقتذاك!، الانقلاب العسكري الدموي ليس أبدا هو الوسيلة المناسبة لحل النزاعات، كما أن تلك النوعية من انقلابات العسكر والتي بلغت الذروة في انقلاب الجنرال التشيلي بينوشيت في سبتمبر/أيلول 1973 وكان بتدبير المخابرات الأمريكية حينذاك ضد الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي لم يعد لها مكان في خريطة التحولات السياسية، تركيا بكل تأكيد تعيش أوضاعا وضغوطا سياسية وعسكرية وتشهد تحولا تاريخيا جذريا يتناقض وقد يصطدم مع الحالة التي عاشتها منذ انهيار الدولة العثمانية عام 1923 ونشوء الجمهورية التركية الحديثة على أنقاضه، كما أن بروز الدور السياسي والعسكري التركي والنجاح الاقتصادي الكبير والقدرة على ادارة تحولات مهمة في الشرق قد وضع ألغاما كبيرة وخطيرة وأسلاك شائكة أمام قادة التجربة التركية الحديثة التي كسرت كل التابوهات، ومع وجود مغامرين وملفات تآمر، وأطراف تعمل ليلا ونهارا في محاولة حرف النجاح التركي عبر تشغيل ماكنة الارهاب الموجه والذي توج بارهاب الانقلاب العسكري هي من الأمور التي تجعل تركيا تقف في مواجهة مخاطر واحتمالات عديدة لن تنجح بعد التفاف الشعب التركي حول شرعيته، والضربة التي لا تقتلك تقويك!.. وهذا هو واقع الحال فيما شهدته تركيا من أحداث عاصفة في صيف قائظ وفي خضم محاولات أطراف دولية واقليمية عديدة لحرف المسار السياسي والاقتصادي التركي عن خطه المرسوم!.. لن ينجح الانقلاب من حيث أتى، وقد انتهى زمن المغامرين الراكبين لدبابات الفوضى والعبث، والقرار للشعب وحده، وقد أثبت الشعب التركي عن قدرة فائقة على هزيمة المؤامرات المستهدفة لمستقبله.