15 سبتمبر 2025
تسجيلمع رحيل آخر الرجال الثلاثة الذين صادقتهم في الغرب (الفيلسوف المسلم رجاء جارودي) ومع رحيل (ميشال جوبير وزير خارجية فرنسا الأسبق) لم يزل حيا ونشيطا سوى المفكر الاقتصادي الأمريكي ومستشار الرئيس الأسبق رونالد ريجن صديقي (ليندن لا روش) وعندما يدلهم ليل الأحداث الجسام وتنزل على العالم صواعق مثل هذه التي نحياها، وتهدد المخاطر ذلك الربيع العربي، اطلب بصيص نور من ذكريات شخصية انطبعت في ذاكرتي، وأستعيد ـ مثل شريط الفيديو ـ بعض لقاءات مع رجال صنعوا جزءا من تاريخ الغرب وتاريخ الحوار بين الإسلام والغرب، وظلوا صامدين لم تزعزعهم الدعايات اليمينية المتطرفة ولا الشائعات الصهيونية الجائرة. جمعتني بهؤلاء الرجال الثلاثة صداقات قديمة أصيلة، حرصت على رعايتها وتنميتها خلال زمن المنفى الصعب، ذلك الزمن القاسي الذي يخذلك فيه من اعتبرتهم ذات يوم أصدقاء ويتفرق من حولك المنافقون الذين جمعتهم بك مسؤوليات سياسية زائلة وأعراض دنيوية عابرة. ولكن ليندن لاروش رجل الاقتصاد الأمريكي المعروف والمرشح الأسبق لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وميشال جوبير وزير خارجية فرنسا الأسبق، ورجاء جارودي الفيلسوف الفرنسي المسلم الذي نذر نصف قرن من حياته لخدمة حوار الحضارات وفضح الصهيونية، هؤلاء الرجال الثلاثة يظلون شامخين في ذاكرتي وفي ضميري من ذلك المعدن الأصيل الثمين الذي لا يتغير مع الأحداث، وفي هذه المحنة التي تمر بها حضارة الإسلام، هذه المحنة متعددة الأبعاد: من العراق إلى فلسطين، إلى نذر الفوضى في ليبيا ومصر واليمن مرورا بمحنة سوريا التي لا نرى لها أفق حل إلى تونس التي حققت مكاسب غالية ولكنها تفتقر إلى بعض الأمن واستعادة العافية وتوضيح الصلاحيات لرموز الدولة. استرجعت أحاديثي المطولة مع هؤلاء الأصدقاء الثلاثة، وقرأت محطاتها بعيون أخرى مختلفة وأنا دايس معكم جميعا أيها القراء الكرام على جمر هذه المصائب أذكر حديثي مع ليندن لاروش في يوم دافئ من أيام نوفمبر 1984، حيث دعاني إلى قضاء يوم في «رانشه» بولاية بنسلفانيا غير بعيد عن واشنطن وكنت في ذلك العهد عضوا بالبرلمان التونسي مقررا للجنة الشؤون السياسية في أواخر عهد بورقيبة وكان بالطبع لاروش كأي سياسي أمريكي يريد أن يطلع على مشاغل الطبقة السياسية المغاربية واتجاهات الرأي العام العربي إزاء العلاقات الأمريكية العربية، وبخاصة قضية فلسطين وتعامل إدارة الرئيس رونالد ريجن في ذلك الزمن مع تلك القضية. وكنت بدوري حريصا على فهم ذلك الجهاز المعقد الذي اسمه أمريكا، وكيف يتاح للعرب إيجاد قنوات للتعامل مع الرأي العام الأمريكي لأنه ذو التأثير الحاسم على مجريات القضية الفلسطينية. وكانت تونس في ذلك العقد من الزمن تأوي جامعة الدول العربية وتستضيف منظمة التحرير الفلسطينية وأبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وأبو اللطف وكل القيادة المناضلة فاهتمام ليندن لاروش بما كنت أقوله هو اهتمام طبيعي بالنظر لموقع تونس القوي آنذاك ودورها في بلورة سياسته العربية. قال لي لاروش ونحن نتغدى على مائدته مع زوجته هلجا: «أنا أعتقد أن ليس للإدارة الأمريكية سياسة عربية، فهي منذ دوايت ايزنهاور تستعيض عنها بالسياسة الإسرائيلية.. هذا هو الخطر الكبير الذي يهدد مصالح أمريكا على المدى البعيد.. أن البيت الأبيض ينظر للعرب بعيون إسرائيلية.. لاحظ مثلا اعتبار ياسر عرفات إرهابيا من قبل إدارة ريجن لا لشيء إلا لأن إسرائيل تعتبره إرهابيا وأكد لي لاروش أنه كتب مذكرة لريجن وقال له إن عرفات ينتمي إلى آخر جيل فلسطيني يقبل التفاوض وأن الجيل الذي سيأتي بعده سيأخذ حقوقه بالسلاح والعنف.. نحن نتوقع أن يتحول جزء من ذلك العنف ليضرب أمريكا ذاتها في يوم من الأيام.. لأننا لم نستقل بعد عن الرؤية والتصور والأنماط والمصالح السائدة في إسرائيل. هكذا تكلم ليندن لاروش منذ ثلاثين سنة. أما ميشال جوبير، وزير خارجية فرنسا ووليد المغرب العربي والقلم المنصف للعرب ولقضية فلسطين، فأنا أذكر حديثه منذ عشرين سنة في مطعم سان فرانسيسكو الذي نلتقي فيه أسبوعيا يحرص كلانا على احترام مواعيدها. قال لي ذات يوم صيفي عام 1996: إنني أعجب من العمى السياسي الذي يصيب الإدارة الأمريكية.. رئيسا تلو رئيس. وأعتقد أن الجهل هو سبب ذلك العمى وذلك التخبط، فالأمريكي المتوسط الذي يضع الرأي العام الضاغط عادة على قرارات الإدارة الأمريكية هو مواطن محدود المدارك السياسية، ليس لديه طموح في أن يعرف حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي. فإسرائيل بالنسبة إليه هي الدولة الموالية لأمريكا وحامية الغرب من شعوب عربية متخلفة «غير ديمقراطية»، وهذه الرؤية لدى الأمريكي المتوسط هي رؤية إسرائيلية.. صاغتها وسوغتها وروجتها أجهزة إعلامية ذات تأثير، خاصة القنوات التلفزيونية الأهلية والمحلية التي تبث لولاية أو لمدينة كبرى أو لمجموعة مدن، هذا هو المجتمع الأمريكي أمام قضية فلسطين.. كيف نغير هذه المعادلة؟ هكذا تكلم إليّ ميشال جوبير وهو مدى حياته مسكون بهاجس التخبط الأمريكي ويعتبره أم المعضلات أمام قضية فلسطين. وأني أقرأ مقالات جوبير الصادرة بعد 11 سبتمبر 2001 وأرى أنه حلل الأحداث بنفس المنطق، بل إنه كان منذ سنوات عندما كان يتحاور في عام 1973 مع زميله الأمريكي هنري كيسنجر ينصح الإدارة الأمريكية بقراءة حرب أكتوبر 73 بعيون أخرى، وتوقع أزمة عالمية كبرى من جراء مساندة الظلم الإسرائيلي دون ضوابط. أما الصديق المفكر رجاء جارودي رحمة الله عليه فكانت لي معه أحاديث مطولة في بيته.. قال لي منذ عشرين سنة «إني أكتب كتابا هذه الأيام سوف أضع له عنوانا هو: أمريكا تقود العالم إلى الهاوية! فقلت له: لعل هذا أمر مبالغ فيه.. فرد عليّ قائلا: لا إنها الحقيقة.. لم تدرك أمريكا بعد أن حجمها العملاق الأوحد يفرض عليها اليوم رسالة في حوار الحضارات ونصرة المظلومين ورفع راية مبادئ حقوق الشعوب وحقوق الإنسان.. إلى اليوم لم تتعلم تلك القوة العظمى أن عالما خاليا من تلك المبادئ لن يصمد.. وسيجرف أمريكا معه ـ أو تجرفه أمريكا ـ إلى الهاوية، إن أمريكا تمهد مع الأسف لعالم دون قيم. أو بالأحرى بقيم دون محتوى. هي ترفع شعارات الحرية ـ مثل تمثالها الشهير ـ لكنها لم تتحول إلى ممارسة سياسية وحضارية. هكذا تكلم ثلاثة رجال أقدرهم وأحترمهم.. والزمن أعطاهم الحق والمصداقية.