02 نوفمبر 2025
تسجيلنشأ عمرو بن الجموح، في موطنه يثرب، بين أسرة كريمة تنتمي إلى الخزرج من بني سَلَمة، فشب على أخلاق السادة والزعماء الكرام، ممتازاً عن أقرانه وأترابه من شبان يثرب، إذ كان كريم النفس، سخي اليد، ذا أدب جم، فعرف قومه بنو سلمة، فضله وشرفه، فأنزلوه منزلة يستحقها، وهو لها أهل، وبها جدير، وإنه مع ما تتحلى به نفسه من شريف الخصال، وحميد الصفات، كان في جسده عاهةٌ، متمثلة في ساقه، التي بها عرج بيِّنٌ شديد، كأن السوء لم يجد له محلاً ولا موضعاً في روحه الفاضلة، فحلَّ من ثم في جسده، وأصاب ساقه، ولكن لم يكن ذلك ليضرَّ أو يؤثر في عمرو بن الجموح، بل زاده في نفسه عزيمة ومضاءً، ولم يكن انحناؤه وانعطافه، بعرجته إلا كانحناء السيف، وانعطاف القوس، الشيء الذي لا يعد فيهما عيبا، وإنما مزية وخصيصة في صنعهما، بهما تُدرك الغاية، وكذلك حال عمرو بن الجموح مع عرجه، إذ لم يسبب له نقصا ولا تأخرا، ولم يعقه أي إعاقة، بل كان سباق غايات يقصّر دونها العداء ذو الساق السليمة، بحيث جرى في ميدان المجد والخير في الحياة، بفعله وعمله، كفرس جموح لا يكبو، وهو ابن الجموح كما سنعرفه. تزوج عمرو، ورزقه الله أربعة أبناء، منهم ابنه معاذ بن عمرو، الذي سبقه إلى الدخول في دين الله الإسلام، منذ بيعة العقبة الثانية، فعاد ابنه معاذ بعد أن أسلم إلى المدينة، يدعو إلى الإيمان بالله ورسوله، وينشر دعوته في أهله وقومه، فكان من الطبيعيّ أن يبدأ أولا بدعوة أبيه عمرو، الذي يعرف منه صواب الرأي، وحكمة العقل، وطيب النفس، فجعل معاذ في رفق ولين يبين لأبيه محاسن الرسالة المحمدية، وما تحض عليه من مكارم الأخلاق، التي لم يكن عنها عمرو بمعزل، وما تأمر به من فضائل المعاملات، وأن كل ذلك إنما هو بالإيمان بالله وحده، وبالإحسان إلى خلقه. فما كاد عمرو بن الجموح، يسمع تلك المعاني العالية الرفيعة في سموها ورقيّها، التي تصدع بها دعوة الإسلام، حتى وافقت من نفسه قبولا ورضا بغير شك ولا ريبة، فسارع على أثر ذلك في إعلان إسلامه واللحاق بركب رسول الله، هو وجميع أبنائه الأربعة.كان عمرو جواداً سخيا بارزا في ذلك بين عشيرته بني سَلمة، معروفا بذلك عند سائر القوم في المدينة، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام، سأل ذات يوم جماعة من بني سلمة فقال لهم:( من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا سيدنا الجدُّ بن قيس، على بخلٍ فيه، فقال رسول الله: وأي داء أدوأ من البخل؟ بل سيدكم الجَعْدُ الأبيض، عمرو بن الجموح)، أجل، كذلك يعرف الرجال بالكرم، ويا له من ثناء، وشرف ناله ابن الجموح، فخلده في الدهر، فإن ذلك الثناء والشرف، وسام قلَّده إياه النبي الكريم، سيد ولد آدم، كجزاء حسن عاد على عمرٍ بفضل جوده وسخائه، ومن هنا انطلق لسان شاعرهم بالمديح والتبجيل المستحق، فقال:فسَوَّدَ عمروَ بن الجموح لجودِه وحُقَّ لعَمْرٍ بالندى أن يسوَّداإذا جاءه السُّؤال أذهب مالَه وقال: خذوه، إنه عائدٌ غدا الله أكبر! أين من يقول للمال: خذوه إنه عائد غدا. لله دره إن كان مثله موجودا بين البشر، وما أحسن أن ننشد هنا قول الشاعر القديم:والحمدُ لا يُشترى إلا له ثَمَنٌ مما تضنُّ به الأقوامُ معلومُرجل مثل ابن الجموح بروحه الطموح، ليس يكفيه أن يكون جواداً بالمال فحسب، ينفق منه فيما يرضي ربه ويكسبه الحمد والمجد، ولكنه يبتغي في سبيل الله أن يكون جواداً بنفسه أيضا، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، فأراد أن يخرج للجهاد مع رسول الله، مع ما في ساقه من عرج، وهو يمنّي نفسه بذلك، لعله أن يظفر بالشهادة ويلقى الله شهيدا، قد بذل روحه كما قد بذل ماله، فداءً وتضحية من أجل الإسلام، تلك هي أمنيته التي ملأت قلبه، وشغلت فكره، ولكنه رجل أعرج، والأعرج غير مفروض عليه الجهاد، ولا حرج عليه في القعود عنه، فإنه من أهل الأعذار المعفى عنهم الجهاد، وليسوا مطالبين به، غير أنه سعى إلى الخروج منذ يوم بدر، وحدّث رسول الله في ذلك، وسأله راجيا الإذن له بالقتال معه، وقد كان أبناؤه الأربعة كلُّهم من المجاهدين، إلا أنهم كانوا ذهبوا إلى رسول الله، وطلبوا إليه ألا يأذن لأبيهم بالخروج، رحمة به وشفقة، فما كان من النبي إلا أن أخبره بأن الجهاد ليس فريضة عليه، وجعل يتلطف معه في الخطاب مواسيا إياه، مهونا عليه، على حين أن ابن الجموح كان مصمما على ما يريد، فلم يكن من النبي إلا أن أمره بالبقاء في المدينة، فانصرف من عنده حزينا تكاد عيناه تفيضان من الدمع، وهو يسأل الله أن يبقيه ويوفقه للخروج في يوم آخر من أيام الله.ظل عمرو بعد يوم بدر، متربصا بيوم آخر يخرج فيه للجهاد، إذ لم تعرف نفسه اليأس، ولم تخضع للقنوط، وكيف يكون منه ذلك وهو رجل اعتاد البذل والندى، ولم يعرف في حياته قط معنىً للخيبة والفشل، فلما نادى المنادي أن حي على الجهاد يوم أحد، استعد عمرو وتأهب وانطلق إلى النبي، وقال في عزم وجَلَد: يا رسول الله، إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فلم يجد رسول الله أمام هذه العزيمة الصريمة، والبسالة العظيمة، بدا من أن يأذن له بالخروج، فغمرت نفسه حينئذٍ الفرحة والسرور، واندفع يعرج بخطاه، كأنه يثب من شدة سرعته، وهو يدعو الله قائلا: اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني إلى أهلي. هكذا دعا عمرو:(ولا تردني إلى أهلي)، ثم جاء يوم أحد، ودار القتال في ساحة الوغى، فصال وجال ابن الجموح، وأبلى بلاءً عظيما، كأنما عاد عليه عرجه سلاحا آخر يقاتل به الأعداء الذين حيرهم مشهده وقتاله، وهو يطْفِر هنا وهناك، حتى استشهد رضي الله عنه، ونال بغيته بالموت شهيدا.