14 سبتمبر 2025

تسجيل

رحل صديق العرب ونصيرهم الوزير برنار ستازي

18 مايو 2011

تألمت جدا هذا الأسبوع لرحيل صديق شخصي عزيز هو الوزير الفرنسي الأسبق (برنار ستازي) عن سن الثمانين وهو رجل المبادئ الأخلاقية في سياسة فرنسا والاتحاد الأوروبي والذي غادر الحكومة في عهد الرئيس جورج بومبيدو عندما صدع سنة 1973 بموقف صارم وغاضب ضد الجنرال الانقلابي أوغستو بينوشيه الذي اغتال ولي نعمته الرئيس المنتخب سالفدور ألندي في جمهورية التشيلي. وتصرف رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك من منطق ضرورة الانضباط الحكومي وعزل برنار ستازي الذي تسلح دائما بمنطق القيم السياسية. وعاود الكرة في ديسمبر 1975 حين نشر مقاله في صحيفة لوموند منددا بما سماه "انحراف الرئيس جيسكار نحو الاستبداد" ثم تميز منذ أواسط السبعينيات بموقفه ضد عقوبة الإعدام قبل أن يلغيها الرئيس فرنسوا ميتران في الثمانينيات. وتألق برنار ستازي في أكتوبر 1986 حين وقف وقفة مناضل حقوقي باسل ضد اليمين الفرنسي والأوروبي المتطرف في مواجهة تلفزيونية مع زعيم العنصرية المناهضة للمهاجرين العرب رئيس حزب الجبهة الوطنية جون ماري لوبان ودفع ستازي ثمن شجاعته غاليا حيث فقد رئاسة لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الفرنسي بسبب تكالب أصوات النواب اليمينيين ضده. أما جهاده المناصر للعرب فقد توج بنشر كتابه الجريء الشهير في مؤسسة لافون للنشر بعنوان: "الهجرة فرصة تاريخية لفرنسا". وهنا بدأت بيني وبينه علاقة صداقة متواصلة لم تنقطع حيث كنت أنا عضوا في البرلمان التونسي ومقررا للجنة السياسية فيه وراسلته شاكرا له ومقدرا هذه الجرأة النادرة في نصرة المهاجر العربي وهذا الوقوف المشرف إلى جانب حقوق أبنائنا المهاجرين في مجتمع فرنسي وأوروبي شرع ينجرف وراء بهتان العنصريين والاستعماريين من اليمين المخادع فنسي المجتمع الغربي أن هؤلاء المهاجرين هم من أسسوا أغلب البنية التحتية الأوروبية من طرقات سريعة وجسور وسدود منذ الخمسينيات في ظروف يعلمها الله من البرد والعراء والفاقة والسكنى في أكواخ القصدير المحيطة بمدن الثلوج، ثم إن هؤلاء المهاجرين هم أبناء أولائك الجنود التوانسة والجزائريين والمغاربة الذين هبوا لتحرير فرنسا من الاستعمار النازي الهتلري في أغسطس 1944 حين جمع الجنرال الفرنسي (لوكلارك) صفوفهم فيما سمي بكتائب لوكلارك التي أبحرت من شواطئ المغرب العربي لتقاتل الجيش النازي وتنقذ فرنسا وهو ما غاب تماما عن ذاكرة الأجيال الفرنسية المتعاقبة في نوع من الجحود المخزي الذي لا يليق بالأمم الكبيرة الأصيلة. وبدأت بيني وبين هذا المناضل مراسلات ولقاءات عديدة توجناها معا سنة 1985 بتأسيس جمعية الصداقة البرلمانية التونسية الفرنسية ثم أصابتنا أنا وصديقي محمد مزالي رئيس حكومة تونس آنذاك محنة المنفى إلى باريس في صيف 1986 تلاحقنا فلول أذيال الاستعمار وأعداء الهوية من بطانة الزعيم الحبيب بورقيبة بسبب ما أحدثناه من ثورة صامتة في برامج التربية التونسية حيث رفعنا لواء التعريب لأغلب المواد المدروسة في مؤسساتنا التربوية وانحزنا إلى العبقريات المسلمة لنشحن بها فلسفة التعليم ورحنا ضحية مؤامرات الصراع من أجل وراثة الزعيم بورقيبة. وفي المنفى العسير كان برنار ستازي هو الملجأ الأمين والصديق الصدوق دافع عني وعن الأخ محمد مزالي بنوع نادر من الوفاء للمبادئ لم ألمسه في كثير من الغربيين وكان لي ولمحمد مزالي نعم السند في الملمات حين جاء زين العابدين للحكم وأمعن في الانتقام الرخيص مني ومن صديقي مزالي ومن كل من لم يرق له ولوزيره الأول آنذاك وهو ما ذكرته في كتابي المتواضع الصادر سنة 2005 في حضرة السلطان الجائر لا بعد رحيله بعنوان (ذكريات من السلطة إلى المنفى). وقف برنار ستازي معي ومع حرية بلادي وضد القمع وساعدني خاصة يوم إيقافي من قبل النائب العام بمدينة فرساي الفرنسية بطلب كيدي لجلبي إلى تونس مكلبشا يوم 25 أغسطس 1992 بتهم غريبة وعجيبة ضدي وضد مزالي فعلم بالأمر برنار ستازي واتصل بوزير العدل الفرنسي آنذاك (ميشال فوزال) الذي أسرع بإطلاق سراحي ونال نظام الطاغوت صفعة مدوية وللتاريخ والعبرة أقول اليوم بأن الظلم لا يبز الحق وأن الله لا يحب الظالمين وأن العاقبة للمتقين. ولكني رغم مرور الأيام لن أنسى للوزير برنار ستازي نبله وسمو أخلاقه نحوي ونحو وطني وأبناء وطني ونحو القضايا العادلة.