15 سبتمبر 2025
تسجيلفي تاريخ العراق المتوتر المعاصر ثمة مواقف وأحداث يبدو أنها تستنسخ ذاتها في تراتبية تاريخية عجيبة! وعبر تكرار أحداث وأوضاع أضحى تكررها يشكل حالة مأساوية حقيقية! فالانقسام السياسي الراهن وانشطار البرلمان العراقي الحائر لشطرين، والصراع حول تغيير لم ينجح، قد أعاد إلى الأذهان ذكريات نصف قرن ماضية من العمل السياسي العراقي، لا نرى بأسا ولا غضاضة في ضرورة إعادة تسليط الأضواء عليها، ففي 8 من فبراير 1963 تمكن التحالف الحزبي والعسكري البعثي- القومي من الوصول إلى السلطة عبر عملية انقلاب دموية أسدلت الستار على نظام اللواء عبد الكريم قاسم العسكري! مما شكل وضعا سياسيا عراقيا جديدا ومختلفا كانت الأوضاع الداخلية فيه أشد تأزما، وكانت روح الحقد والتشفي والانتقام تطغى على ما سواها، كما كانت حملات القمع والتعذيب والقتل هي السائدة محولة العراق إلى معتقل كبير بعد حملات أمنية قوية لقمع الشيوعيين والتيار اليساري، أسفرت عن قتل الآلاف منهم، وبعد شهر من ذلك الانقلاب، حدث انقلاب عسكري بهوية بعثية في سوريا في الثامن من مارس 1963 أنهى معه حكم الانفصال القائم منذ عام 1961 وأسس وضعا سياسيا جديدا، ما عزز من سطوة التيارات القومية في المنطقة التي اتجهت لتحتمي بمظلة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وتطلب الوحدة مع نظامه! في واحدة من أكثر التحولات غرابة في تاريخ الشرق، في العراق لم يكن الوضع مستقرا بما فيه الكفاية وهو على الشاكلة نفسها في الشام، فالصراعات المجتمعية والسياسية الحادة قد أنتجت تأزما قلقا بين الماسكين بزمام الحكم، وبرزت الخلافات والانقسامات داخل الحزب الواحد، وعانى البعثيون من انقسامات لتيارات فكرية وشخصية متصارعة داخل الحزب الواحد انقسموا على أثرها إلى مجموعتين متضادتين، المجموعة المتشددة بأهوائها القطرية، والمجموعة الأقل تشددا بأهوائها القومية، واحتدم الصراع بين الطرفين الذي وصل لدرجة الصدام الدموي الذي حسمه العسكريون القوميون الذين ضربوا التيارين البعثيين المتصارعين وأزاحوهما عن سدة السلطة!! اليوم تتكرر صورة مشابهة لذلك الوضع في العراق، فبعد سنوات من المطالبات الشعبية بالتغيير وتجاوز المطبات التي صنعها الاحتلال الأمريكي بعد أن تسلطت الأحزاب الطائفية على السلطة محمية بدستور يحمل أمراضا خبيثة للطائفية والعرقية والمحاصصة، تفجر صراع هذه المرة داخل مجلس النواب العراقي (البرلمان) الذي انقسم أعضاؤه ليبدؤوا فصلا تغييريا ليس ملحا بالدرجة الأولى، فمن يجب أن يتغير أولا مؤسسة رئاسة الحكومة التي فشلت منذ تغيير المالكي بالعبادي عام 2014 من أن تحقق الطموحات أو تنجز أي إنجاز، بل كان اللعب على الوقت هو سمة الوضع الحكومي العام، فتدخلت أطراف سياسية بعضها يقع تحت تأثير رئيس الحكومة السابق نوري المالكي الذي يحاول إعادة عقارب الساعة للوراء العودة لاستلام السلطة مما فجر خلافا حادا داخل البيت الشيعي وداخل حزب الدعوة الحاكم أساسا، وأثار وضعا سياسيا مضطربا سيؤدي حتما في المستقبل القريب إلى نتائج تغييرية واضحة، فمؤسسة الحكم في العراق بكل فروعها قد وصلت لدرجة الإفلاس التام، ولم يعد للنخب السياسية القائمة ما تستطيع تقديمه، وتغيير رئاسة البرلمان لن تغير الوضع العراقي البائس، والصراع بين الأحزاب الحاكمة قد وصل لمرحلة كسر العظم الفعلية، وما سيطرأ لاحقا حتما سيؤدي لبلورة تحرك ومشروع سياسي سيوجه ضربة قاصمة للأحزاب الطائفية الفاشلة التي تعاونت وتضامنت وتحاصصت في نهب البلد، ثم اختلفت وتصارعت فيما بينها بحكم الحتمية والضرورة! العراق مقبل اليوم على وضع تغييري شامل وغير مسبوق بعد تكرر متلازمة الفشل، ورغم انسداد الآفاق والحالة الصعبة التي يعيشها العراقيون وهم يعانون من تفشي الفساد والإرهاب والأزمة الاقتصادية واستمرار سطوة الجماعات المسلحة على مناطق عراقية واسعة، إلا أن الخلافات السياسية والحزبية ستكون الأساس المكين لمتغيرات حتمية قادمة قد ترسم طريقا مستقبليا مختلفا للعراق عن الحالة البائسة التي يعيشها حاليا، صراعات تكرر نفسها في أوضاع تاريخية مختلفة، ونهايات حاسمة سترسم في الطريق، ولكن ستبقى الأزمة مستمرة في ظل غياب مشروع وطني جامع مانع يحدد الأولويات ويرتب الملفات، ويرسم خارطة طريق واضحة للمتغيرات. في العراق اليوم كل الطرق مؤدية إلى التغيير.