17 سبتمبر 2025
تسجيلتتعالى أصوات الناعقين غربان السوء السياسي في فضاء بلدان الربيع العربي كأن القدر نفخ في صور الطموحات الشعبية لتتراجع وتندثر أمام بعض العراقيل الظرفية الطبيعية بعد كل تغيير عميق. والمطلوب من النخب العربية اليوم هو الصمود وعدم اليأس من إعادة التاريخ إلى مجراه بعد أن حوله الطغاة إلى مسرح هزلي مأساوي أقصى فيه الشعوب عن التفكير والمسؤولية واستفرد بالقرار والخيار وسار بالبلاد نحو الكارثة. أما وقد استعادت الشعوب حريتها وكسرت أغلالها واستجاب القدر لإرادة الحياة كما قال شاعر تونس أبو القاسم الشابي فإن الزمن أصبح يسارع بعده العكسي أمام النخب الحاكمة والمعارضة لتخرج بالمجتمعات من حالة فقدان البوصلة إلى حالة الوفاق من أجل مصلحة الوطن. ولنأخذ تونس مثلا لما يمكن أن يصيب بلداننا من انحراف سياسي عن أهدافها السامية فنسجل حالة احتقان دستورية أسبابها اصطدام تعنت بتعنت: تعنت أقلية من أهل السلطة الشرعية بإصرارها على استبعاد جزء أو أجزاء من الطيف المقابل باستعمال آليات القانون تعسفا ضد من أجرم وضد من لم يجرم على السواء وهو ظلم قامت الثورات لمقاومته وإنهائه وتعنت أقلية من المعارضة بتهويل المخاطر وإشاعة رهاب الفوضى وإيقاظ أشباح الماضي والتلويح بالفراغ الدستوري وهي مواقف من الجانبين مجانبة للصواب وتصب في خانة المعادين لكل تغيير ولا تخدم مصير تونس ومصير الربيع العربي. وفي هذه المطبات السياسية الشبيهة بالمطبات الهوائية بالطائرات لا بد من الإشارة إلى أن سترة النجاة تحت المقعد أي في متناول اليد وهذه السترة المنقذة من الضلال هي الجلوس حول مائدة مستديرة للحوار الوطني وهي البادرة التي اقترحها الاتحاد العام التونسي للشغل وهو المنظمة العتيدة المجاهدة التي دفعت ثمن استقلال الوطن غاليا وهذه المبادرة يبدو أن أغلب الفرقاء السياسيين في بلادنا قبلوا بها لكن لكل فريق شروطا لم تعد مقبولة بالنظر إلى أولوية الملفات المطروحة ولا بد أن يتخلى كل فريق عن شروط الإقصاء لأن الحوار الوطني في مفهومه الأصيل هو الاستماع للآخر المختلف عنك لا التحاور مع المتفق معك. عوض الخلاف بين تضاد أيديولوجيات ومصالح أحزاب يمكن أن يكون الحوار استكمالا للحوار الجاري بالمجلس التأسيسي المنتخب وسندا وتعميقا وتحيينا وتأصيلا له لأن المجلس يضم جميع الحساسيات السياسية ويقوم برسالته لكن بتعثر وبطء يحسبان على عدم التجربة وضعف الدربة لا على سوء النية وبإمكان الحوار الوفاقي الوطني أن يستكمل تلك الرسالة لتبلغ البلاد شاطئ النجاة والملفات المستعجلة معروفة ومتفق عليها وهي: 1) الاتفاق على الهيئة التي ستنظم الانتخابات القادمة وعلى القانون الانتخابي. 2) الاتفاق على الهيئة التي ستشرف على القضاء وتضمن استقلاليته وحياده. 3) الاتفاق على الهيئة التي ستدير قطاع الإعلام والاتصال وتؤمنه ضد التسييس الحزبي واستغلال المال السياسي. 4) الاتفاق على إنشاء وزارة للأمن والأمان تكون الذراع القوية العادلة لدولة الحق والقانون. 5) الاتفاق على روزنامة محددة واضحة للمواعيد الانتخابية المنتظرة أي في النهاية الاستعداد لإنشاء الدولة بسلطاتها الثلاث المستقلة عن بعضها البعض: التنفيذية والتشريعية والقضائية. إن هذه الملفات الخمسة هي ذات الأولوية والاستعجال ولا أعتقد أن واحدا من الفرقاء مهما كان انتماؤه يعترض على حيويتها بالنسبة لمصالح الناس ومستقبل الوطن. كما لا أعتقد أن واحدا من الفاعلين السياسيين يفكر في إرجاء حلها لأنها تشكل آلية الدولة المنشودة وتأسيس العمران بعد انتشار الخراب إلى جانب الأمانة التي انتخبنا المجلس التأسيسي لأدائها وهي تحرير دستور جديد للبلاد يكون الضامن للحقوق والحريات والمؤتمن على مصير البلاد وهي أمانة ثقيلة لم يتوفق المجلس بعد عام من انتخابه لإنجازها مما أدى إلى بعض الإرباك وتأجيل القضايا الخمس التي عددناها إلى مواعيد قادمة نأمل ألا تطول. الوطن أمانة في أعناق الجميع أيا كانت مواقع أقدامهم ومهما اختلفت رؤاهم وكيفما تصوروا أداءها إنها أمانة استخلاف حقيقية نتحملها أمام الله والشعب والتاريخ حتى لا نضيع بأيدينا ما أراد الله لنا من سلام وأمان وتقدم وكرامة وعدالة.