28 أكتوبر 2025
تسجيلفي الطابق الرابع حيث صالة تحرير جريدة الأهرام كنت مشغولا بمتابعة وقائع ثورات الربيع العربي -الأحد قبل الماضي - استعدادا لإضافة جديدها إلى الطبعة الثانية التي تصدر في الحادية عشرة مساء لم أنتبه لعبارات تتردد حولي بشأن مسيرة ضخمة من الأقباط مرت على مبنى الصحيفة الأضخم في المنطقة ورددوا شعارات مناهضة لها رغم أن الأهرام باتت أكثر انفتاحا من ذي قبل على مفردات الواقع المصري بعد ثورة الخامس والعشرين ولا تختلف متابعتها لأحداثها ومعطياتها عن أي صحيفة من الصحف التي كانت تصنف في خانة المعارضة للنظام السابق إن لم تتقدم عليها في بعض الأيام. كان ذلك في نحو السادسة مساء ولم أعر المسألة كثير اهتمام فالمسيرات والاحتجاجات أضحت جزءا من المكون اليومي للحياة المصرية بعد الثورة غير أنه بعد حوالي السابعة مساء أخذت التطورات تتصاعد وتتدفق على نحو شكل مفاجأة وهو ما تجلى في جلوس رئيس التحرير ومسسئولي الدسك المركزي على الطاولة الرئيسية بصالة التحرير خاصة مع ورود أنباء عن مواجهات أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون والذي يطلق عليه "ماسبيرو" بعد توجه المسيرة إليه والتي انطلقت من منطقة شبرا وهي واحدة من المناطق التي يسكنها تجمع مسيحي عالي الكثافة نسبيا في العاصمة ثم الإعلان عن استشهاد مجندين تابعين للجيش المصري في هذه المواجهات ثم توالى الإعلان عن تصاعد أعداد استشهاد المجندين وغيرهم من المدنيين وبدا لنا الأمر أشبه بحرب حقيقية في ماسبيرو ونحن نتابع سير المواجهات عبر شاشات التلفزيون التي تتصدر الصالة من محطات مختلفة فتيقنت أن ثمة خطرا حقيقيا يحدق بالمحروسة فالنيران تشتعل أمامنا والقتلى والجرحى من الجانبين تتزايد أعدادهم وأسلحة نارية تستخدم إلى جانب ما يسمى بالشوم والسنج والسيوف وزجاجات المولوتوف وقطع الرخام التي لا يعلم أحد كيف وصلت إلى الموقع بهذه الكثافة وبهذه النوعية وكأنما طرف أو عدة أطراف استعدت لهذه المواجهة ثم أنباء عن قيام مدرعات تابعة للجيش بدهس مواطنين وامتدت المواجهات التي أخذت شكل الكر والفر إلى المناطق المحيطة بماسبيرو إلى ميدان عبد المنعم رياض وإلى ميدان التحرير وشارك أهالي منطقة بولاق أبو العلا التي يقع فيها مبنى الإذاعة والتلفزيون منحازين إلى صف الجنود وبدأ نوع من الاستقطاب على أساس ديني مما حدا بجماعات سلفية للاحتشاد والسعي إلى الدخول في المواجهات التي استمرت إلى ما بعد منتصف الليل وفي المنطقة المحيطة بالمستشفى القبطي بشارع رمسيس البعيد عن منطقة ماسبيرو بحوالي 3 كيلو مترات جرت مواجهات أخرى أخذت طابعا طائفيا مقيتا وفي مناطق المواجهات بدأ الفرز الطائفي على نحو بغيض من هذه الفئة أو تلك واشتعلت الكراهية في تلك الليلة خرج مخزون من الغضب المكتوم لدى كل جانب وخشيت أن تتحول القاهرة إلى بيروت أخرى بحيث يتم القتل على الهوية وهو ما حدث بالفعل في بعض المناطق وكادت الأمور تخرج عن السيطرة فتم اللجوء إلى قرار فرض حظر التجول في منطقة وسط القاهرة التي شهدت المعارك من الساعة الثانية ليلا حتى الساعة السابعة صباحا وهو القرار الذي أنقذ العاصمة من الوقوع في براثن حرب طائفية حقيقية خاصة مع ورود أنباء عن حشود لحوالي خمسة آلاف من السلفيين استعدادا للدخول في المواجهة مع المتظاهرين من الأقباط وبعيدا عن الوقائع التي بات يعرفها الجميع فإن المرء يشير إلى جملة من الملاحظات الرئيسية في قراءة ما جرى من وقائع الفتنة في ماسبيرو يمكن إيجازها فيما يلي : أولا : تراخي السلطات الحكومية بداية عن التعامل مع أزمة كنيسة ماريناب بإدفو جنوب مصر ومحاولة احتوائها على نحو ينتصر للعدالة والقانون والمنطقة وبما يوقف تداعياتها التي سعت دوائر قبطية في القاهرة إلى استثمارها في سياق ما تراه من أزمة مع الأغلبية المسلمة وكان يمكن في هذا الصدد إرسال لجنة حكومية من العاصمة إلى منطقة الأحداث والوقوف على الحقائق ميدانيا قبل أن تتفاقم الأمور إلى هذا الحد الدموي والذي أحدث شرخا في العلاقة بين نسيج الوطن الواحد وسيتطلب متسعا من الوقت حتى يمكن مداواته. ثانيا : غياب الاستعداد من قبل الأجهزة المعنية للتعامل مع المسيرة التي تم الإعلان عنها في وقت مبكر من قبل الدوائر القبطية التي أعلنت احتجاجها على ما جرى للكنيسة سواء عبر بيانات نشرتها وسائط الإعلام المعروفة أو من خلال شبكة التواصل الاجتماعي – الفيس بوك أو رسائل البريد الألكتروني وبعضها للأسف كان ينطوي على تهديد واضح بالتصعيد والمواجهة ولكن يبدو أن الأجهزة الأمنية المسئولة عن تجميع المعلومات وتحليلها لم تعد بالكفاءة المطلوبة أو أن ثمة أجنحة ما زالت تدين بالولاء للنظام السابق رأت ترك الأمور تمضي باتجاه التصعيد وهو ما يصب في مصلحة الفوضى التي بشر بها مبارك عندما قال في إحدى خطبه خلال مظاهرات يناير أما أنا أو الفوضى وليس ثمة بيئة مواتية للفوضى من توظيف الفتنة الطائفية وإشعال معركة بين الجيش والمسلمين من ناحية والأقباط من ناحية أخرى. ثالثا : من أين جاء المندسون أو البلطجية وكيف تسنى لهم اختراق المظاهرة السلمية للاقباط ولماذا تركوا يعملون أسلحتهم المتنوعة قتلا وإصابة سواء في قوات الجيش والأمن والأقباط وما هي نوعية القوى والشخصيات التي تقف وراءهم بحيث بات سيناريو تدخلهم يتكرر في كل مسيرة أو مظاهرة ذات طابع سلمي فسرعان ما تتحول إلى كرة من نار تظل تتمدد حتى تجهض أهدافها بل وتعلي من حجم المخاطر وتوسع الهوة بين الجيش والشعب وبين الأمن والشعب وبين الحكومة والشعب وتبث حالة من الكراهية والإحباط إلى الحد الذي أدى بالبعض إلى الكفر بثورة الخامس والعشرين من يناير. رابعا : نحن في حاجة إلى معرفة الحقائق المتصلة بواقعة فتنة ماسبيرو وبالذات الأسباب التي أدت إلى لجوء الجيش إلى العنف في التعامل مع المتظاهرين وهل كان قيام مدرعة أو مدرعات تابعة له بدهس متظاهرين كان ممنهجا أم محض ردة فعل على اعتداءات بالأسلحة النارية وغيرها من أنواع مختلفة على أفراده الذين كانت خزائن أسلحتهم خاوية من الذخيرة؟ فالجيش أعلن أن الدهس لا يدخل ضمن مفردات عقيدته القتالية حتى مع العدو وما فهمته أن ما جرى في هذا الجانب بالذات جاء للتصدي لسيل الاعتداءات التي تعرض لها جنوده والذين كاد بعضهم يتعرض للاحتراق داخل مدرعته واستشهد ثلاثة من الجنود فضلا عن إصابة أكثر من عشرين آخرين. خامسا : إلى أي مدى اتسمت التغطية الإعلامية بالذات من قبل التلفزيون الحكومي بالتحريض على الأقباط؟ ذلك سؤال مطروح بقوة ويتطلب إجابة موضوعية وشفافة من لجنة مستقلة محايدة فثمة اتهامات من قبل دوائر عديدة للتلفزيون بأنه لجأ إلى استخدام لغة التحريض وتوجيه نداءات للإسراع إلى الدفاع وحماية الجيش من اعتداءات الأقباط الأمر الذي دفع بعض الفئات المتوجسة إلى الإسراع بالتجاوب مع هذه النداءات خاصة من أهالي المناطق القريبة من ماسبيرو بينما يرى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن التلفزيون تعامل مع الموقف بموضوعية ومهنية خاصة أن التغطية للأحداث كانت على الهواء مباشرة وما زالت هذه القضية موضع جدل واسع بيد أنه يمكن الإشارة الى أن البعض من المذيعين والمذيعات والذين كانوا يتابعون الوقائع مباشرة لم يتمكنوا من الالتفاف على عواطفهم عندما شاهدوا بأم أعينهم جنودا يقتلون وتنزف دماؤهم فسارعوا في حماس إلى توجيه الدعوة لحماية الجيش وهو خطأ مهني لأن الجيش ليس في حاجة إلى حماية المدنيين له وهو جيش الجميع مسلمين ومسيحيين والذين تتكون وحداته منهم فضلا عن ذلك فإن ذلك أسهم دون أن يقصد هؤلاء المذيعون في تأجيج البعد الطائفي وهو ما يتطلب مساءلة وتقديرا لطبيعة اللحظة الانفعالية. سادسا: بات المطلوب بإلحاح من الجماعة الوطنية المصرية أن تتجاوز الخطاب الطائفي والسعي إلى احتواء تداعيات ما وقع في ماسبيرو والتركيز على المراحل المنتظرة التي تهدف إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة المصرية عبر صيغة الاقتراع المباشر التي ستقود إلى انتخاب البرلمان بمجلسيه ثم رئيس الجمهورية تكريسا للخيار الديمقراطي وهو أحد المطالب الرئيسية لثورة الخامس والعشرين من يناير صحيح أن الجرح سيظل لفترة نازفا غير أن مصلحة الوطن فوق الطائفة أو الأشخاص ومن هنا فإن المرء يتوجه مخلصا إلى رموز المؤسسة الدينية خاصة بعد الإعلان رسميا عن إنشاء بيت العائلة برئاسة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب والبابا شنودة بابا الكنيسة الكاثوليكية لوضع محددات جديدة وعقلانية وشفافة تعيد التوهج للنسيج الوطني الواحد باتجاه يعلي من قيمة المواطنة وعلى حساب الطائفة والاحترام المتبادل للجانب العقيدي وتجنب أي محاولة للاستقواء بالخارج تغذيها بعض دوائر الأقباط في المهجر والأهم من كل ذلك وقف كل عمليات التحريض الطائفي والديني التي تتولاها بكفاءة منقطعة النظير فضائيات من هذا الجانب أو ذاك وأغلبها يمول من الخارج. السطر الأخير: دعيني أؤكد لك أنك صباحي ومسائي ربيعي وخريفي ضيائي وطني ومنفاي [email protected]